الاستقطاب السِّياسي غير المُرشد.. الطريق إلى الرّدة
تقرير – فرح أمبدة: 28 نوفمبر 2021م
ليس بإمكان أحد التكهن بما ستنتهي إليه الرمال السياسية المتحركة باستمرار في البلاد، ولا إلى أين تتّجه بها الرياح؟ فقد اتسعت رقعة الاستقطاب السياسي بصورة غير مسبوقة وازدادت حدة وتنوعاً وعنفاً، حتى استعصت على الفهم، وكادت أن تتحوّل معها الساحة إلى مسرح كبير تتناطح فيه ثيران من بيئات مُختلفة، وهو الأمر الذي أعلى من الأصوات المحذرة، والتي لا ترى في ظاهرة الاستقطاب السياسي الراهنة غير مُحاولة للردة ولإرجاع عقارب الساعة للوراء وضرب التحوُّل نحو الديمقراطية والتعددية السياسية التي ترتكز في أساسها على تماسُك القوى السياسية، وهناك من يرى ان ما يجري “توجُّهٌ مدروسٌ” ومخططٌ له مسبقاً، محلياً وإقليمياً وربما دولياً، لهز مُكوِّنات المُجتمع القديم ما يُشكِّل خطراً على مُستقبل الاستقرار في البلاد، فيما يرى فيه آخرون حراكاً طبيعياً وتمريناً سياسياً أحدثته ظروف المرحلة ومخاضاً أنتجه الواقع السياسي.
ومع ذلك, فإن الجميع يتّفق على أن الدولة السودانية، ما بعد سقوط الإنقاذ تعيش “ظروفاً استثنائية” لجهة أن البلاد تنفض عن نفسها غبار ثلاثين عاماً من التراجع والدمار والخراب، ما يستدعي قدراً من التنبه من قبل القوى السياسية وهي تُمارس أساليبها السياسية القديمة، حتى لا تفيق على واقع يصعب الرجوع منه، وإن عليها اللجوء إلى “الحكمة” حتى تعد المرحلة الراهنة دون أن تصل إلى مرحلة القطيعة، وأن تبحث عن منافذ للحوار المفضي إلى الأهداف المعلنة للثورة، بدلاً من الركون والتمترس، خاصةً وأن ذلك حدا بالطرف الآخر اللجوء من وقت مبكر، إلى استقطاب الزعامات المجتمعية وقيادات حزبية عن طريق المساومة مدخلاً لتجذير الانقسام والتباعد داخل المكونات الحزبية، وقد تجلى ذلك بوضوح في ما عُرف بمجموعة القصر، وبيانات التأييد “والوقوف مع” التي تتبارى مكونات مجتمعية في إصدارها هذه الأيام.
ضعف الذاكرة
وبسبب حالة الشد السياسي والجذب، يمر السودان، وبلا شك، بأوقات غاية في الحساسية، حيث نزل فريقان كل منهما يدعو لمطلبٍ مُعاكسٍ للآخر، فالبعض يرى أن الإجراءات التي اتّخذها قائد الجيش في الخامس والعشرين من اكتوبر، وحل بموجبها مؤسسات الحكم المدني واقام على أنقاضها مؤسسات أخرى، ومن ثم الاتفاق مع رئيس الحكومة المنحلة الدكتور عبد الله حمدوك، مخرجاً لما تُواجهه البلاد من أزمات، فيما يرى آخرون أنّ السلطة كاملة يجب أن تكون مدنية، وأن الاتفاق لم يؤد إلا إلى مزيد من التعقيد للأزمة، فضلاً عن تشعبها، وأنها أدخلت البلاد بالفعل في نفق مظلم، وبين هذا وذاك سالت الدماء في الشوارع ولا تزال، لكن الأزمة برمتها، برأي الخبراء، ترجع الى عدم قدرة القوى السياسية المختلفة والمكون العسكري، على استيعاب دروس التاريخ، إذ أن ما تمر به البلاد اليوم مرّت به مرات ومرات.
درس تعليمي
وحسب رؤية، الصحفي والمحلل السياسي، علاء الدين بشير، أن ما يجري من استقطاب هو تجربة تعليمية، ودرس تعليمي للأطراف السياسية، المدنية والعسكرية، ومنطق الأشياء يقول إن حالة الاستقطاب الجارية لا يُمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، في النهاية ليس هناك من طريق غير الحوار والتفاوض, لأن البديل هو الحرب، ومَن مِن الأطراف مستعد للحرب؟
ويضيف في حديث لـ”الصيحة”: في النهاية سيظهر من بينهم العقلاء، وأي مشكلة في الدنيا لا تُحل إلا بالجلوس للحوار والتفاوض، القضية السودانية في عُمومتها، ستأخذ دورتها الطبيعية وتعود إلى مربع الحوار، ولكن حسب رأيي أن من معه الحق الأكبر ستميل إليه الكفة في النهاية, وفي الحالة الراهنة الحق الأكبر مع مَن يتمسك بمدنية الدولة ليس مع المكون العسكري ولا قائد الجيش الفريق البرهان، لأنه غدر بشركائه المدنيين، وأي محاولة لقطع الطريق أمام هذا الهدف سيزيد الأزمة تعقيداً, لأن من يعمل ضد هذا الهدف لن يجد مُناصرة لا من الداخل ولا من الخارج، والمجتمع الدولي أعلن موقفه بوضوح، وقوى الثورة الحيّة في الشوارع ولن تتراجع.
ويشير بشير إلى ان المستقبل المنظور قد يفرز قيادة جديدة تخرج من رحم الثورة، خاصة وأن الشباب الذي هو وقود الثورة الحقيقي لم يخرج للشارع لا في السابق ولا في الوقت الراهن من أجل القوى السياسية، خرج من أجل الحرية، لذلك سيتبلور المشهد في المُستقبل القريب عن ظهور قيادة من وسطهم تعبر عن قضاياهم وقد بانت ملامحها الآن لم تظهر، حسب قوله، مفسراً ذلك بأن الشباب الذي يقودون المظاهرات في الشوارع لا يلقون بالاً لما تقوله الأحزاب, بل هي من تتبعهم من الخلف، هُم يقودون الأحزاب الآن.
نموذج للفشل
ويتّفق مع بشير، صلاح خليل، الباحث السوداني بوحدة الدراسات الأفريقية التابعة للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، حينما يقول إن الأزمة السودانية الحالية تُعد نموذجاً واضحا لفشل النخبة السياسية السودانية في بلورة رؤية واضحة لمشاكل السودان، وتجلّ ذلك، بعد مرور أكثر من عامين ونصف من عُمر الفترة الانتقالية، افاق الشارع السوداني على وقع المارشات العسكرية وبيان يطوي صفحة من تاريخ البلاد ليفتح اخرى، مُستقلاً فشل القوى السياسية في الإجماع على مشروع وطني، يقف قوياً في وجه أيِّ ردة، الأمر الذي بات يُهدد التوجُّه نحو ترسيخ الديمقراطية والعملية السياسية برُمتها.
جهة وقبيلة
يعتقد كثير من الخبراء والمحللين، أن سنوات الشمولية التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً، والسياسات التي كانت مُتّبعة تجاه الأحزاب أدت إلى حالة الضعف التي تعتريها في الوقت الحاضر، وأن تلك السنوات ثبتت فكرة الاستقطاب المجتمعي وسط الكيانات القبلية والجهوية، ولم تسلم المكونات المجتمعية من الدخول إلى مسرح الاستقطاب التي تشهده الساحة السياسية، ما يمثل خطراً آخر على عملية التحول الديمقراطي، فامتداد سنوات الشمولية إلى ثلاثين عاما من عمر النظام البائد، جعلت من منسوبي القبائل يجتهدون في البحث عن انتماءاتهم القبيلية للولوج إلى السياسة بدلاً من الانتماءات الحزبية، وحتى بعد زوال النظام الشمولي لا يزال رجال القبائل وزعماؤها يحتلون موقعهم وسط الأحداث السياسية، وفي هذا يقول الصحفي والمحلل الياسي عبد المنعم أبو إدريس، إن في السودان نوعين من الاستقطاب، الأول الاستقطاب السياسي المعروف القائم على سحب مؤيدين لما يطرحه هذا الكيان الحزبي أو هذه المجموعة المتحالفة من حزب أو مجموعة أخرى، قد تكون تحالفاً أو حكومة، بهدف إجبارها على تضمين رؤيتها أو التراجع عن قرارات اتّخذتها، وهذا برأيه مبرر ومفهوم إذا لم يصل إلى مرحلة تهديد السلم والأمن القومي، أما النوع الثاني فهو الاستقطاب الجهوي والقبلي وقد بدأ منذ بداية التسعينات، وهذا النوع بنظره خطيرٌ جداً على الأمن والسلم الاجتماعي وتسبّب في كثير من المآسي وبسببه سقط الكثير من الضحايا مثلما حدث في دارفور وكردفان وفي الشرق والنيل الأزرق.
ويضيف أبو إدريس في ذات الاتجاه قائلاً: للأسف هذا النوع من الاستقطاب لا يزال مستمراً، خاصة وقد أصبح له أثر سياسي وبدأت الأطراف تستخدم القبيلة والجهة لتحقيق مكاسب سياسية، وقد اثّر ذلك على المشهد السياسي برمته لأنه حوّل الانتماء من الكيان السياسي والانتماء للأفكار إلى القبائل والجهات، وخطورة هذا المسار قد يؤدي إلى تفكيك البلد مثل ما يحدث الآن في إثيوبيا, لأن كل الاحزاب في تلك البلد قائمة على القبيلة والعشيرة والقومية.
ممارسات موروثة
ويؤكد أبو إدريس من أن أطرافاً في الحكومة الحالية وفي الأحزاب، قائمة أصلاً من خلال انتماءاتهم القبلية والجهوية، وأن هذه الكيانات ورثت هذا الأمر من المُمارسات السابقة المرتبطة بالزعامات القبلية, والأخيرة حريصة على أن تستمر مصالحها وحريصة على أن يكون لها دور، ويقول: هذا لا يعفي الاحزاب السياسية من أنها أحزاب ضعيفة ومتكلسة ولديها طرق عمل فوقية غير مرتبطة بقضايا الجماهير، ولم تقدم برامج تسحب إليها الناس بعيداً عن كياناتهم القبيلة.
وتاريخياً كما يقول أبو إدريس، الانتماءات السياسية في السودان في أحسن أحوالها لا تتعدى الـ10% لأن القبلية تسللت إلى الأحزاب خاصة الكبيرة مثل حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، وقد تَجَلّت في فترة حكم المؤتمر الوطني، وهي لا تزال مستمرة، وحتى بعد اندلاع الثورة، أصبح استخدام النفوذ القبلي ممارسةً يومية إما بهدف الضغط على طرف من الأطراف أو بهدف دعم القيادات المتنمية لهذه القبائل أو تلك.
أبو إرديس يرى أن حالة الاستقطاب السياسي التي تُجرى لسحب شباب الثورة لهذا الطرف أو ذلك لن تجدي فتيلاً “الشباب حاسمين أمرهم وعارفين وجهتهم وهذا ما يعطي الأمل، وهم غير مسجونين في الانتماءات القبلية أو الجهوية الضيِّقة, بل هدفهم هو تثبيت الحرية والديمقراطية وقطع الطريق أمام أي رده, وهذه مطالب لا يتنازلون عنها”.
ويضيف: “فارزين عيشتهم ومحددين موقفهم، مَن يتّفق معهم سيكونون معه, ومَن يختلف معهم لا يركنون إليه”.
نَفقٌ مُظلمٌ
حالة الاستقطاب التي تجرى حالياً قد تُدخل البلاد في نفق مظلم، إن لم تكن قد ادخلتها، وربما أتاحت الفرصة لواجهات النظام السابق أن تخرج إلى الساحة من جحورها مجدداً، الباحث خليل يعتبر في مقال نشرته الصحف العربية، أن ذلك من شأنه أن ينقل الدولة السودانية من مرحلة المُلاسنات السياسية والعراك من أجل السُّلطة إلى مرحلة الصدامات العنيفة، ومن ثم تهيئة كل الظروف لفوضى أمنية واقتصادية واجتماعية، في مرحلة شديدة الخطورة وقد تُهدِّد بقاء الدولة ذاتها.
نتائج ظاهرة
ومن بين النتائج الظاهرة للعيان لحالة الاستقطاب السياسي, تفشي خطاب الكراهية والإقصاء بين المكونات السياسية والمجتمعية. يقول الصحفي والمحلل السياسي، أحمد يوسف التاي في مقال نشره بصحيفة “الانتباهة” قبل أشهر، “الذي يتابع الحوار السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي بين الكودار الحزبية والقيادات السياسية، والذي يشارك فيه أحياناً هواة السياسة غير المحترفين، يُلاحظ تسيُّد حالة الاستقطاب السياسي الحاد، والتي تضفي غموضاً كثيفاً على المشهد على نحو يحجب الحقيقة، ويؤثر على أداء أجهزة الدولة الرقابية والعدلية”.
مرض الهشاشة
وحالة الاستقطاب السياسي حسب رأيه تُعد واحدةً من أعراض مرض “هشاشة” الحركة السياسية السودانية الناتجة من عدم الاستقرار السياسي الذي ضرب الساحة السياسية منذ فجر الاستقلال “في الساحة السياسية المصابة بـ“الهشاشة” ينحدر الجميع إلى مُستوى ضحل وسطحي من مُستويات الحوار، وتصبح ملامح النقاش العامة هي عبارة عن مُغالطات واتّهامات وسباب، وإساءات وتجريح، وعنف لفظي، بهدف إسكات الطرف الآخر، لا بهدف توضيح الحقائق أو إقناعه بوجهة نظر معينة”.
أجمل التاي، نتائج حالة الاستقطاب السياسي في أنه خلق حالةً من الاصطفاف “السالب”, حيث فرض على “حلبة” النقاش أمرين لا ثالث لهما: (إما أن تكون مع هذا أو ضده)، وهذه الحالة لا تسمح لأية وجهة نظر خارج هذا التصنيف بالظهور والنمو.
يبقى أن حالة الاستقطاب الحادثة الآن، ربما ادّت حال استمرارها بنفس الوتيرة والمنوال إلى تشكيل خطر حقيقي للعملية الديمقراطية برُمتها، الأمر الذي يخلق مناخاً مُواتياً للعنف والعنف المُضاد، خاصة وأن هناك من يسعى ويجتهد لإفشال التحول الديمقراطي ليس في السودان فحسب, بل وفي المنطقة.