تحليل: إنعام عامر
كيف يبدو المشهد السياسي الآن في البلاد، عقب مرور قرابة الثلاثة أسابيع، منذ أن انحاز الجيش للشعب، واستلم مجلسه العسكري تصريف أمور البلاد بشكل مؤقت.. كيف يمكن النظر إلى الملفات على طاولة السياسة التي من بينها رؤى دفعت بها كيانات وتيارات سياسية، بهدف تشكيل وتحديد وضعية المجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية، ومهامه من جهة، ووضعية الحكومة المدنية ومن يمثلها ومهامها من جهة أخرى.. ما دور التدخلات الخارجية وأثرها على الطرفين.. ما سلبيات تمدد حالة السيولة السياسية التي تجثم الآن على صدر المشهد السياسي.. وما دور الوضع الراهن في تزايد حالات الفوضى والانفلات الأمني التي تشهدها مدن وولايات البلاد؟
تساؤلات تفرض نفسها بقوة على أرضية راهن يبدو معقداً للغاية ومفتوحاً على كل الاحتمالات..
داخليا تبدو الأوراق مبعثرة بشكل ربما يثير القلق وسط الشارع العام.. تفاصيل العملية التفاوضية تبدو مرتبكة للغاية… وضعية التفاوض بالنسبة لقوى التغيير تبدو هشة وحائطها المستند عليه لا يخطئ ميلانه الناظر.. تم نقد الوثيقة من داخل قوى الإعلان نفسها ومن قانونييها ما يعني أن أطرافاً داخل الكيان لم تشترك في وضعها أو تداول النقاش حولها.
ذات الدولاب القديم تتم قولبته الآن من قبل قوى الحرية والتغيير وفق مسودة الوثيقة التي دفعت بها والتي استندت على الاستئثار بكل شيء ابتداء من المجلس السيادي إلى المجلس التشريعي، مروراً بالحكومة المدنية.. بالإضافة إلى تضارب التصريحات داخل قوى التغيير، الأمر الذي أربك العملية التفاوضية.
قللت تلك الربكة من ثقة المجلس العسكري تجاه من يفاوضه عندما نزعوا سلطاته وأبدلوها بأخرى بدت تشريفية تماماً حصرت في رمزيته للسيادة الوطنية وممارسة سلطات سيادية استناداً إلى فحوى الوثيقة التي تم تقديمها .. قدمت قوى التغيير التي بدت غير متماسكة في داخلها بشكل لافت، وثيقة الفترة الانتقالية بسقوف بدت لمراقبين عالية للغاية، بل وتكرس لمنطق حكم الكيان الواحد وإقصاء تيارات أخرى، الأمر الذي يعني إعادة الملف إلى مربعه الأول.. ظهر ذلك من خلال لغة البيانات التي دفعت بها كل من مجموعة المهنيين وحزب الأمة، ومجموعة أركو مناوي.. وعبر تجمع المهنيين عن حالة الإرباك التي تعاني منها قوى الحرية والتغيير باعتذار لقواعده حواها بيانه الصادر الايام الماضية اعتذر فيه بشكل صريح عن الارتباك الذي شاب موقف الكيان خلال الأيام الماضية، وحملته تصريحات وبيانات عبر وسائل الإعلام من بعض أطراف قوى إعلان الحرية والتغيير، ما ساهم في إرباك المشهد السياسي ككل وأثر على مُجمل العملية السياسية والتفاوضية، وتلافى حالة الارتباك تلك بتوحيد قنوات اتصاله مع جماهيره ومع من يفاوض ..إلا أن الاختلاف والتباين في الرؤى داخل تجمع إعلان الحرية والتغيير وربما الشقة بين مكوناته، لا يمكن اختزالها في ما اسماه البيان “تعبيراً عن التكوين التحالفي بسبب اختلاف في الرؤى لا الخلاف حول الأهداف… إلا أن حالة التجاهل التي تقول بها مكونات أساسية في كيان التغيير تظل أمرا يوضع في خانة الإقصاء من بينها إعلان رئيس حزب الأمة القومي الإمام الصادق المهدي، أن حزبه لا يعترف بالوثيقة الدستورية التي دفعت بها قوى الحرية والتغيير للمجلس العسكري الخميس الماضي، بسبب عدم استشارتهم أو اشراكهم في وضعها. ووصف الوثيقة، في حديث خاص لـ (بي بي سي) أنها اختطاف للثورة. وإجمالاً يمكن النظر إلى سلبيات تلك التباينات إذ أن أقلها هو إطالة عمر العملية التفاوضية، الأمر الذي يعمل على تمدد شبح الفوضى وتفشي حالات الانفلات الأمني مثلما حدث خلال الأيام الماضية بولاية الخرطوم وولايات أخرى.
حول الوثيقة
وبالرجوع إلى وثيقة الإعلان الدستوري للفترة الانتقالية التي دفعت بها قوى التغيير كمقترح قابل للتفاوض، فإن موقف طرفي التفاوض لن يظل دون تحرك، وربما تطلب الأمر إبداء مرونة يحتم الموقف التحلي بها حفاظاً على مصلحة البلاد، يجب ألا ترفضها قوى التغيير التي أعلنت أن وثيقتها قابلة للتعديل .. وهنا تقول قوى الحرية والتغيير إن الوثيقة التي سلمتها المجلس العسكري حوت “رؤية متكاملة حول صلاحيات ومهام المؤسسات في المرحلة الانتقالية”… إلا أن واقع الحال يقول إن تلك الرؤية لم تشمل مكونات داخل مجموعة التغيير نفسها، ناهيك عن تنظيمات أخرى خارج الكيان، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية.. وضعت الوثيقة على طاولة المجلس العسكري الذي تسلمها لمناقشتها وتداول محتواها لافتاً إلى أن بها نقاطاً للاتفاق، وملاحظات حولها تخضع للنقاش والتفاوض. وهذا يفتح المجال واسعاً أمام التكهنات بماهية الرد لا الرفض، إذ يتوقع أن ينظر في تعديلها أو استبدال بعض بنودها بأخرى بحيث تضمن إشراك القوى السياسية والتيارات التي لم يشملها إعلان الحرية والتغيير دون إقصاء، ويحقق العدالة ويحافظ على الهوية من جهة، ورفض حالة الرمزية التي وضعت فيها الوثيقة المجلس العسكري، بعدما تغولت على صلاحياته بشكل لافت.
مبادرات وطنية
وفي الأثناء ينظر إلى مبادرات وطنية تخص الملف بعين الرضا.. لتجسير الهوة بين الطرفين بغرض التوصل إلى صيغة للحكم خلال الفترة الانتقالية ترضي أطياف المكون السياسي للشعب السوداني بعيدًا عن العزل والإقصاء، ودون أن تُمس هوية البلاد.. إلا أن حالة الإرباك السياسي التي حدثت خلال الأيام الماضية من قبل مكونات مجموعة التغيير جعلت خطوات القائمين على أمر تلك المبادرة تتراجع قليلاً بسبب تصريحات بعض منسوبي التغيير القائلة برفضها أي وساطات.. وفي خطوات تحسب إيجابية أعلن بيان تجمع المهنيين لاحقاً قبول قوى التغيير تلك الوساطة بعدما نفى قبوله أي نوع من الوساطات بينه والمجلس العسكري بخصوص طريقة الحكم خلال الفترة الانتقالية بحجة الجلوس المباشر إلى طاولة التفاوض، أعلن بيان تجمع المهنيين قبول قوى التغيير مبدأ الوساطة في منحاه الوطني العام، وقال إنه ينتظر استلام بنودها وتفاصيلها مكتوبة للعمل على دراستها والوصول لرؤية موحدة حولها، إلا أنه ربما وضع بعض المتاريس أمام فتح الباب لتلك الوساطة، إذ أن اعلان قبول الوساطة جاء في بيان المهنيين لا قوى التغيير..
أجندات خارجية
يظل أمر التدخلات الخارجية في شؤون البلاد، بشقيها الإقليمي والدولي أمراً مقلقاً للغاية، إذ أن فتح المجال لتلك التدخلات من شأنه تمكين الأجندات الخارجية وفرضها وتمريرها أيضاً على حساب المصالح الوطنية، ومكمن الخطر هنا هو تباين وتقاطع التوجهات الخاصة بتلك الدول التي تريد أن يكون لها دور ويد تتدخل في تشكيل مستقبل السودان لصالح أجنداتها..
وفي الأثناء يظل أمر حفظ البيئة الداخلية من التصدع والانفلات الأمني أمراً في سلم أولويات المجلس العسكري تفادياً لانزلاق البلاد ووقوعها في الفوضى وصونها أيضا من داء الفتنة. كذلك ينظر إلى سلبيات إطالة وتمدد الزمن دون التوصل إلى حلول ترضي كل الأطراف بقلق كبير لما يخلفه من اضطراب يهدد استقرار البلاد وأمنها ويطيل أمد السيولة السياسية التي تشهدها البلاد.