ما هي الخيارات المُتاحة أمام كلٍّ من المجلس العسكري الانتقالي، وتحالُف قوى الحرية والتغيير، بعد انسداد الممر السياسي وبروز حالة جمود لزِجة بعد فشل محاولة تمرير الوثيقة الدستورية التي قدّمها التحالُف للمجلس العسكري، الذي أبدى حولها ملاحظات جوهرية، ورفض أجزاء منها، وأرجع التعديلات لأصحاب الوثيقة، فاختلط حابِل التحالُف بنابِلِه، وهُم الآن على وثيقتهم عاكفون؟
وهل هُناك مخرج ما مِن التلبُّك السياسي القائم، أم تتجاوز الأحداث والتطوّرات الراهنة تفاصيل ذلك الاختلاف وتنفتح الساحة على مِشكاة ومنفذٍ جديد ينسرِب من خلاله ضوءٌ للحل؟
في ما يبدو، هناك خِيارات أمام المجلس العسكري للخروج من الحالة الراهنة، فإذا استيأس المجلس من أية تفاهُمات منتجة وفاعلة مع قوى الحرية والتغيير، وشعر أنه تحالُف لا يفيد في تفكيك عُقَد وتشابُكات وشائك الأزمة السياسية، ولم يتطوّر إلى شريك منتج وحيوي يستطيع تفهّم ما تتطلبه وتقتضيه الفترة الانتقالية، وحقائق المرحلة الحالية بكل ما فيها من تعقيدات وتحدّيات، فإن المجلس سيضطر إلى تجاوز المسار الواحِد وينفتِح على الكل، ويتعاون مع الجميع، ويكسب تأييد ودعم أكبر قطاع من الكُتَل السياسية، ويعزِم ويتوكّل على الله، ويُكوِّن حكومة كفاءات مدنية من شخصيات مستقلة، ويجد لها أجلاً مُحدّداً بعد أن يدعو الجميع إلى الانتخابات بعد عامٍ أو أقل.. وينفض المولد والسامر ..
فالمجلس لا يُمكنه أن ينتظر إلى ما لا نهاية، ولا يُمكنه تحمُّل (لعب العيال) بلا طائل أو جدوى، فقوى الحرية والتغيير لم تحسم خلافاتها بعد، ولا تتّفِق على شيء إلا تراجعت عنه غداً، لها أكثر من لسان تتحدّث به، وألف وجه تُقدّمه وتتعامَل معه، تُمسى علي رأي، وتُصبح على رأي آخر مُعاكس له في الاتجاه، فشريكٌ من هذا النوع لا يُشجّع على استمرار الشراكة ليوم واحد، وهذا النوع المُتقلّب المُتشنّج والمُتناقِض اللجوج سيكون وبالاً على أية شراكة سياسية، لأنه بذرة الفناء وجرثومة المرض، فمن الخطورة بمكان أن يتحمّل المجلس العسكري كياناً تحالُفياً يُعاني من شيزوفرينيا سياسية، بتنافُر مُكوّناته وتعارُض آرائه ومِزاجية تفكيره وتقاطُع طموحات أصحابه وأربابه وشركائه المتشاكِسين، ويُعاني هذا التحاُلف من وسواس قهرِي يجعله غير واثقٍ في نفسه وقدرته على التعاطي مع الواقع، ويتصور أوهاماً وعدواً من العهد السابِق لا وجود فعلي وفيزيائي له في الساحة السياسية الآن، هذا بجانب ما يُعانيه من رهاب وضمور عام وهشاشة عِظام تجعله غير قادِر على إنتاج المُبادَرات السياسية الخلَّاقة التي تُحقِّق أهداف التغيير دون ضجيج وإثارة الغبار المُلوَّث .
أما قوى التغيير والحرية، التي بدأت تفقِد تعاطُف حتى ساحة الاعتصام بسبب فقدان الثقة فيها من جمهرة الشباب، ولانكشاف شراهتِها وطمعها السياسي، فخياراتُها صِفرّية للغاية، تُلوّح بمزيد من التظاهُر وتسيير المواكب والعصيان المدني، وكلها خيارات باتت ذات كلفة عالية ليست هناك نتائج مضمونة وفعلية لها، فإشعال الشارِع أكثر مما هو حادِث، لن تكون بعده إلا الفوضى العارِمة التي سيكون أولى ضحاياها هو تحاُلف الحرية والتغيير نفسه، لأنه بالفوضى لن تكون هناك قيادة سياسية للانفلات، ولا مركز فعل سياسي يُمكنه توجيه حالة الشارِع المنفلت، كما أن الشارِع نفسه الآن بدأت قطاعات واسعة منه تَنتَبِه للخطر الماحِق الذي حاق بالبلاد بسبب فقدان الأمن وملامح الفوضى، وتعطّل مصالِح المواطنين، وانعدام الخدمات بسبب إغلاق الطرُق ومعابِر القطارات وصعوبة التنقّل داخل ولاية الخرطوم، وما تمخّض عن أعمال التخريب والنهب والسلب التي عمّت العاصمة في مختلف أرجائها، ثم الآثار الأمنية والاجتماعية للاعتصام والمعلومات المؤكّدة عن تسلُّل عناصر الحركات المُتمرّدة التي تحمل السلاح إلى داخل الاعتصام، وشبح المُواجَهات الدامية المرتقبة التي لا تخفَى إرهاصاتُها على أحد .
أمام تحالُف قوى الحرية والتغيير، هو فقط التنازُل والتفاهُم بموضوعية مع المجلس العسكري والقبول بأنهم لا يُمثّلون الشعب السوداني كله بكل أطيافه السياسية ومُكوّناته الاجتماعية، ولا يُمثِّلون التغيير وحدهم، كما أن الفترة الانتقالية ليست حِكراً عليهم، وليس بمقدور أحد أن يُقصي أحداً أو يَفرِض رأيه على أحد أو يُملي إرادته على الآخرين ..
ليس أمامهم إلا حل واحد فقط.. هو الخروج من لوثة الوهم التي اعتَرتهُم، والنظر إلى الوقائع الماثِلة والمُعطيات على الأرض، والقبول بالآخرين وعدم استفزاز وابتزاز المجلس العسكري والقوات النظامية، وإلا في نهاية الأمر سيقبَلون ويرجعون وسيرضُون من الغنيمة بالإياب …