الخرطوم: صلاح مختار
ارتبط العَمل السِّري عبر التّاريخ السِّياسي السُّوداني بالحركة الشيوعية السُّودانية، وظلّ الحزب اليَساري مُرتبطاً بالعمل السِّري بحكم علاقته بالأنظمة السِّياسيَّة على السَّاحة، وكلما كانت تلك الأنظمة بَعيدةً عن الديمقراطية، دخل الحزب الشيوعي إلى جُحُور العمل السري وأخفى قياداته من الصفين الأول والثاني عن الأنظار والأضواء، وبالتالي كلّما كانت الأجواء مُفعّمة بالديمقراطية ظهرت حركتهم على الأضواء وبدأت تفوح رائحتهم وعملهم العلني.
السر والعلن
لكن خلال الثلاثين عاماً من الإنقاذ، أخفى الحزب الشيوعي نفسه لفترة، ولكنه لم يخفِ عمله التّنظيمي، وشَهِدَت تلك الفترة لأول مرة قيام المؤتمر العام للحزب الشيوعي على العلن، وبدأ يُمارس عمله السِّياسي المُعارض فوق الأرض ضد الإنقاذ، حتى أن قاد زعيمه الراحل نقد في يومٍ من أيام الإنقاذ مسيرة ضد الحكومة، وقال فيها قولته المشهورة للقُوى السِّياسيَّة الداخلية: (حضرنا ولم نجدكم)، بالتالي بدأت كوادر الحزب من التقاط الأنفاس بعد عناء الحصار، وبدأ العمل الجهري رغم موقفه المعارض للإنقاذ، ورغم ذلك لم يثق الشيوعي في الحكومة خلال فترة الإنقاذ، ولذلك ظَلّ يحتفظ بالسر والعلن في عمله الداخلي.
واجهة الأحداث
واليوم، التاريخ يُعيد الحزب الشيوعي إلى واجهة الأحداث ليُشكِّل واجهاته، قيادات مسيرة التغيير التي تقود العمل السياسي والحراك الجماهيري في الشارع، لقد استفاد الحزب من تَراكُمات السِّياسة خلال الثلاثين عاماً، ليقود حركة سياسية تنظيمية مُحكمة، مُستقلة كما يُعرف عنه العَمل النِّقابي والمِهني ليُشكِّل عُنصر ونواة للحركة الاحتجاجية التي بدأت شرارتها مطلع العام الجاري، والتي لم يُعرف في بدايتها مَن يقف خلفها وما هي قياداتها، حتى وصفها قيادات الوطني في ذلك الوقت بأنّها كيانات تُدار بـ(الكيبورت)، واستخفت منها باعتبارها حركات (هلامية) ووهمية لا يُمكن أن تُحقِّق شيئاً، وتطوّرت حركتها على مدار الأيام والشهور، وتضاعفت بفعل الاحتجاجات الاقتصادية، لتجد أرضيةً خَصبةً لإدارة المعركة السِّياسيَّة مع النظام السابق.. ونَجَحَ تَجَمُّع المِهَنيين الذي شَكّلَ في الخفاء من إدارة مَعركة الاحتجاجات بنجاحٍ حتى وَصَلَ بها إلى مقر القيادة العامة، وأصبح التّجمُّع القائد لمسيرة التغيير، وبدأت معه فترة جديدة من الظهور العلني لقياداته التي كشفت عن وجهها بعد ذلك أنها كوادر شبابية مُنظّمة ومُدرّبة من قيادات الحزب الشيوعي السوداني بالداخل والخارج، بجانب أحزاب أخرى.
فوق الأرض
الحزب الشيوعي هو جُزءٌ من تَجمُّع قيادات وقُوى سياسيَّة مُعارضة للنظام السابق، لا يستطيع أن يَعمل بمُفرده في السَّاحة، لذا كان لا بُدّ من تَجمُّع لقُوى سياسيّة ومُعارضة لإدارة الدولة في المَرحلة الجَديدة بعد إزالة حُكم الإنقاذ.. وبالتالي كَانَ تَجمُّع قُوى الحُرية والتّغيير الذي تقع تحته مَجموعة من القُوى السِّياسيَّة، ورغم الظاهر للعيان أنّ تَجمُّع إعلان قُوى الحُرية مجموعة من القوى السياسية، إلاّ أنّ الذي يقود وينسِّق ويدفع بالعمل الثوري هو الحزب الشيوعي الذي يقف فوق الأرض. ولذلك عقب الإطاحة بالرئيس السابق، عقد الحزب الشيوعي مؤتمراً صحفياً، وأعلن عن نفسه بالعمل فوق الأرض، وأحقيته بالثورة وحركة التغيير، وأبعد في ذلك الوقت كل القوى التي لم تعمل معه في قيادة التغيير بالداخل، ليجد الحزب الشيوعي نفسه فوق الأرض والذين كانوا مُمسكين بزمام الأمور بالدولة يعملون تحت الأرض.
الجَهر بالقَول
في المُقابل، كان المؤتمر الوطني طيلة الثلاثين عاماً من الحكم، يُمارس سياسة التّمكين والهَيمنة على السَّاحة السِّياسيَّة. وظنّ قادته أنّ الساحة لا تقوى بغيرهم، وبالتالي استكانت قياداته على الجهر بالقول دُون العمل على تَوطيد أركانه في الأرض حتى جاءت ثورة الاحتجاجات وأطاحت بالإنقاذ والمؤتمر الوطني من الساحة. ووضعت حركة الاحتجاجات حدّاً لمرحلتهم لتبدأ مرحلة جديدة ليس فيها الوطني مُهيمناً على السَّاحة ولا على القرار السِّياسي. لينزوي من المَشهد تَمَاماً، بَل طَالَبَ البَعض بحل الحزب وتطهير الساحة من الحركة الإسلامية والمُؤتمر الوطني وأذيال الإنقاذ. ليجد قادته أنفسهم في المُعتقلات ليس كما كان قبل الثلاثين من يونيو عندما ذهب البعض إلى القصر والبعض إلى سجن كوبر، ولكن هذه المرة ذهب قادة الوطني إلى السجن مُتّهمين، لتبدأ مرحلة جديدة للعمل السِّياسي للوطني بعد أن استبعدت فرضية حلِّه أو إبعاده من السَّاحة.
تحت الأرض
وبحسب مُراقب فضّل عدم ذكر اسمه، قال لـ(الصيحة) إنّ المرحلة الجديدة بعد الإطاحة بالإنقاذ تطرح سؤالاً، هل يلجأ الوطني إلى العمل تحت الأرض أم يجهر بصلاته كما كان يفعل في السابق؟ وقال: لقد أسَرّ بعض قياداته الذين مازالوا يُراقبون الوَضع من الداخل أنّ الوطني قد يلجأ إلى العمل السِّري لتسيير عمله، ومعروفٌ أنّ العَمل السري مُرتبطٌ بالحزب الشيوعي بحسب المَصدر، بالتالي في هذه المرحلة الوطني يستعير ذلك المَفهوم ليَدخل مَا تَبقّى من قياداته إلى تَحت الأنفاق ويبدأ مَرحلةً جديدةً من العَمل تحت الأرض، ولكن هَل يَقْوى على ذلك..؟
ذهنية رافضة
يجزم المُحلِّل السِّياسي والأكاديمي د. عبده مختار في حديث لـ(الصيحة)، أنّ الأمر مُرتبطٌ بطبيعة الحال، وبحكم الظروف والثورة، وموقف الشعب السوداني من المؤتمر الوطني كواجهة لنظام عسكري عبث بالشعب وكرامته وبالعلاقات الخارجية، بالتالي تَشَوّهَت الصورة كثيراً، وتَشَكّلت ذهنية رافضة تجاه المؤتمر الوطني، ويقول مختار إنّ قضية السِّر والعَلن ليست مُرتبطة بالقانون أو النظام القائم، وإنّما مُرتبطة بالوطني والاضهاد الذي مُورس في السابق تجاه الشعب السوداني، ولأنّ المُجتمع أصبح غاضباً من الوطني والحركة الإسلامية، وأن الصورة الذهية تجاهه سيئة جداً بسبب ما فعله خلال تلك الحقبة، فبالتي لن يتخلى الشعب أو ينسى المرارات والمآسي التي حيقت به..!
تجنُّب الظهور
وقال مختار، إنّ المُشكلة ليست مع الفئة الحاكمة، وإنّما مع المُجتمع العريض من منسوبي الوطني، وبحكم الظُّروف أنّ الوطني مُضطرٌ ومكرهٌ خلال الفترة المقبلة لأن يتجنّب الظهور العلني في المنابر العامة، وعليه أن ينحني للعاصفة خلال الفترة المقبلة، وأن يبتعد عن الساحة، وأن يعيد بناء نفسه أخلاقياً وقيمياً وسلوكياً، لجهة أنّ ما ارتبط به مُرتبطٌ بالسلوك والأخلاق، وبالتالي لا بُدّ من إعادة تربية عُضويته على السُّلوك القويم والسَّليم.
التجربة التركية
ودعا مختار، المؤتمر الوطني الابتعاد عن السَّاحة في هذه المرحلة والانزواء والاقتداء بالتجربة التركية، وتغيير اسمه كما فعل أردوغان عندما اختفى لفترة وظهر باسم تنظيم التنمية والعدالة، وقال: على الوطني أن يستنسخ التجربة التركية.
على مضضٍ
غير أن الخبير الاستراتيجي والمُحَلِّل السِّياسي البروفيسور علي الساعوري نظر إلى القضية من زاوية برنامج قوى الحرية والتغيير الذي طرحه في الساحة، وبالتالي لا يتوقّع في حديثه لـ(الصيحة) أن يمنع نشاط المؤتمر الوطني، ولكنه قال: يُمكن أن يستهدفوا بعض قياداته أو رُموزه في المَحاكم، ولكن الحزب لا يتوقّع أن يمنع النشاط عنه، بيد أنّه قال: لا أتوقّع خلال الفترة المقبلة ألا يسمح للوطني بأن يعمل بأريحية، إنما يُسمح له على مضضٍ..!
فرصة ثانية
ودمغ الساعوري، الوطني بتُهمة أنّه قدم خلال فترة حكمه التي امتدت لأكثر من (20) عاماً أداءً فاشلاً في إدارة البلد. وبالتالي يحتاج إلى تغيير سياساته وقادته ولو شاء أن يُغيِّر اسمه، رغم أن بعض قياداته غير مُتحمِّسة إلى ذلك، وإنّما يُمكن أن يُغيِّر سياساته وقياداته، وقال: أعتقد أن القيادات القديمة ليست لديها الفرصة مرةً ثانيةً للظهور، لأنّ المُجمتع حكم عليها، وإذا أراد الوَطني الظُّهور واستئناف نشاطه، عليه تَغيير قياداته بشبابٍ، وأوضح أنّ كثيراً من مُؤيِّدي الحزب لن يكونوا معه في الفترة المُقبلة وغير معنيين به.
إصلاح الحال
وتوقّع الساعوري أن تكون هنالك فرصة كبيرة للوطني لأن يصلح حاله، ويعيد ترتيب أوراقه كحزبٍ فاعلٍ، وقال: صحيح لديه كوادر كثيرة في المركز والولايات، بيد أنّ (الشغل) القديم الذي يُمارسه الحزب انتهى في نظر الناس، وأن نظر الشارع وعُيُونه مُتّجهة الآن للآخرين، مُشيراً إلى أن أنصار الحزب أصبحوا الآن متفلتين عليه، وبالتالي لا يُشكِّل الوطني خطورة على قوى الحرية والتغيير، لجهة أنه لا يرى أنّ لديه مستقبلاً.
حوار فكري
ويرى المُحَلِّل السِّياسي والخبير الإعلامي د. ربيع عبد العاطي أن التغيير الذي حدث هو تغيير أيديولوجي حتى يمنع الوطني من العمل. بمعنى أنه ليست هنالك مُحاسبة أيديولوجية في فكر التغيير، وقال لـ (الصيحة)، إنّ التغيير ليس ضد الإسلام حتى يخفي نفسه، وأشار إلى حديث قائد الدّعم السّريع بأنّ الشريعة قائمة خلال الفترة الانتقالية، ولكن رأي أنّ التناقُض والاختلاف والعَدَاء مَوجودٌ بين الإسلام والشُّيوعية، وقال: هذا لا يعني عدم الحوار، مُشدداً على أهميته، وأوضح أنّه لا بُدّ من حوارٍ فكري بين الشيوعية والعلمانية والإسلاميين.
صيغٌ جديدةٌ
وقال عبد العاطي، إنّ التناقُض الفكري والأيديولوجي لا يستدعي العَمل السِّري للإسلاميين، وأكّد أنّ الإسلاميين سيكونوا مُتواجدين في الساحة، بدليل كانت لديهم مسيرة تم تأجيلها، بيد أنّه دعا إلى صيغةٍ جديدةٍ للعمل الحزبي، وإلى تطوير الفكر وآلياته وأُطروحاته والتّعامُل مع الآخرين.