الخرطوم: سارة إبراهيم – إنصاف أحمد
الأحداث التي شَهدَتها البلاد مُؤخّراً، والتّحوُّل السِّياسي الكبير الذي جَاء نتيجة لضُغوطٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ على المُواطن وأدّت في النهاية إلى سقوط حكومة الإنقاذ التي استمرت ثلاثين عاماً، عاش خلالها السودان حالة من الغُبن والاحتقان السِّياسي، واستشرى الفساد بصورةٍ كبيرةٍ أدّت إلى تدهُور الاقتصاد، ودخلت البلاد في مسلسل من الأزمات المُتكرِّرة كتدهور العُملة الوطنية، وانتشار البطالة، وأزمة الوقود والخبز، وشُح السُّيولة، وأزمة المحروقات والغاز وغيرها، وعقب الإطاحة بالنظام السابق، استبشر المواطن خيراً بأن تشهد الفترة القادمة نهضةً واستقراراً اقتصادياً.. ومن المعلوم أنّ البلاد تُعاني من أزمة نقدٍ أجنبي أفرزت واقعاً اقتصادياً سَيئاً ارتفعت معها أسعار السِّلع، مِمّا أدخل الدولة في تحدياتٍ عديدةٍ، فاتّجهت لوضع مُعالجات لفتح قنوات وإدخال القُروض والمِنَح للبلاد خلال السنوات الأخيرة، ولكن النّاظر للوضع الاقتصادي، يجد أنّ تلك المبالغ التي دَخلت ولا تزال من دول صديقة وشقيقة لم يكن لها الأثر الواضح على تحسين أداء الاقتصاد وتحقيق التنمية.
** مُبادرة عربية
المُشكلات الشائكة والمُعقّدة التي واجهت البلاد، استدعت أن تتطوّع دولٌ بعينها منها، بأن تمد السودان بقُرُوضٍ ومِنَحٍ بمبالغ كبيرة، وأول مبادرة عربية عقب سقوط نظام الإنقاذ السابق قدِّمتها دولتا السعودية والإمارات كمُساعدات مُشتركة للسودان بما قيمته 3 مليارات دولار، تضمن حزمة العون المشترك 500 مليون وديعة للبنك المركزي لتقوية الاحتياطي النّقدي وإنعاش الجنيه السُّوداني، على أن يتم صرف باقي المبلغ لتلبية الاحتياجات المُلحة للشعب السوداني في نواحي الغذاء والدواء والمُشتقات النفطية، ويرى خُبراء اقتصاديون ضَرورة وضع سِياسات اقتصاديّة جديدة للاستفادة من الدعم الخارجي لتحقيق استقرار اقتصادي حقيقي.
** السياسات الاقتصادية
وأجمع عددٌ من الخبراء على عدم استفادة السُّودان من تلك القُرُوض، حيث أوضح الخبير الاقتصادي د. هيثم فتحي في حديثه لـ(الصيحة)، أنّ المِنَح والقُرُوض تُستخدم في الاقتصاد السُّوداني في إطفاء قُرُوضٍ أُخرى أو لِحَلِّ مُشكلةٍ آنيةٍ، ونادراً ما تَضُخ في السُّوق أو استخدامها بمشاريع رأسمالية تُساهم في زيادة النمو الاقتصادي وتخفيض نسب البطالة، لذا لا بُدّ أن تنعكس السِّياسات الاقتصادية على المُواطن، على أن تَكون أهمية القُرُوض أو المِنحَة مَدروسة لأهدافٍ مثل توطين الاستثمار وحل المَشاكل الاقتصاديّة وتخفيض نسبة البطالة، وأضاف: ينبغي أن تُحل مشاكل الاقتصاد السوداني من الداخل وذلك بتدبير مواد محلية يتحمّل عبئها القادرون وزيادة الطاقة الإنتاجية، وعمل ضرائب تصاعدية أفقية وعلى المُعاملات الرأسمالية، لافتاً لوزارة المالية عدم الموافقة على أيِّ قروض جديدة دُون معرفة الجدوى الاقتصادية وطُرق السّداد، مُبيِّناً أنّ أهمية الاقتراض تتوقّف على كيفية استخدامات القرض، فإما أن يتم في استثمارات تدر دخلاً وفي تلك الحالة لا تُوجد مُشكلة في سداد أقساطه،، وإما أن يجري إنفاقه على الاستهلاك وهنا تكمن الكارثة.
** تغيير سياسات النظام السابق
فيما قال الخبير الاقتصادي د. عادل عبد المنعم لـ(الصيحة)، إنّ الوديعة تمنح البلاد استقراراً لفترة أربعة أشهر فقط، لجهة وجود عجزٍ كبيرٍ في الميزان التجاري البالغ 6 مليارات دولار، دَاعياً إلى ضرورة تَغيير سياسات النظام السابق الاقتصادية لغرض الاستفادة من الدعم الذي يأتي من الخارج حتى لا يكون الاقتصادي استهلاكياً، ونادى بضرورة زيادة الإنتاج والإنتاجية وإحلال الواردات وتحويل الاقتصاد إلى إنتاجي بدلاً من استهلاكي، واعتبر الوديعة بالوقفة الجيِّدة وجاءت في ظرف اقتصادي منهار يُعاني من نفاذ كامل للعُملات الحرة ووصول الجنيه السوداني لأدنى مُستوياته، فضلاً عن ضعف كبير في موارده، وأضاف أنّها جاءت في وقتٍ مناسبٍ تعطي البلاد دفعة في المرحلة الانتقالية وتساعد في توفُّر الاحتياجات العاجلة الأساسية، مُؤكِّداً أنّ ارتفاع سعر الصرف نتيجة للمضاربات، مبيناً أن السعر المنخفض حالياً ليس السعر الحقيقي، وكذلك الودائع غير كافية لتَحقيق استقرار في السعر، وإنّما إلغاء سياسة التّحرير وزيادة الضرائب وإلغاء الدّعم وإعادة آلية السوق للعمل بأُسسٍ جيِّدةٍ.
** عدم التخطيط السليم
وفي ذات السياق، أشار الخبير الاقتصادي د. حسين القوني إلى أنّ الدولة النامية تحتاج في أغلب الأحيان إلى دعم من الدول الصديقة، لذلك هنالك دعمٌ من وقتٍ لآخر يأتي في أشكالٍ مُختلفةٍ كقروضٍ عينيةٍ أو نقديةٍ أو مُساعدات فنية، وهذه غالباً ما تكون بطلب من الجهات المُستفيدة، لافتاً لأهمية أن تكون الطلبات مَبنية على دراسات تُلبي احتياجات الدولة المُستفيدة، مبيناً أن السودان واحد من هذه الدول التي تطلب الدعم، ولكن من المُلاحــــظ عدم ذهاب القُرُوض إلى الأهداف المَطلُوبة، لذلك لا تَتَحقّق الخُطَط والبرامج الموضوعة ولا تنعكس على واقع البلد وحياة الناس وهذا يؤدي في أغلب الأحيان إلى نتائج سالبة وهُرُوب المُساعدات والمِنَح والقُرُوض، وقال خلال حديثه لـ(الصيحة): نأمل أن توجّه إلى الأغراض المُحدّدة، مرجعاً الأسباب لعدم التخطيط السليم والالتزام بالخطط المُقرّرة أو نتيجة للفساد الإداري والمالي والسياسي، لافتاً لأهمية الالتزام من قِبَلَ المسؤولين، مُنوِّهاً أنّ الأمر يتطلّب وضع دراسات مُستفيضة تُحدِّد الأولويات والأسبقيات حتى تنهض البلاد وتُحقِّق التنمية المطلوبة.
** انفراج حزئي للأزمة
الخبير الاقتصادي د. عز الدين إبراهيم قال خلال حديثه لـ (الصيحة)، إنّ مثل تلك القروض والمِنَح لا تأتي دفعةٍ واحدةٍ، بل تتم تجزئتها على دفعات وفي فترة زمنية طويلةٍ، لافتاً لمُساهمتها في حدوث انفراج جزئي للأزمة بالبلاد، خَاصّةً وأنّ المبلغ الممنوح ليس بالكبير، حيث سيبدأ بدفع 250 مليون دولار من المبلغ الكلي والذي يُقدّر بـ 500 مليون دولار، إضافةً للحاجات العينية، يكون المبلغ الكلي 3 مليارات دولار في ظل ارتفاع حجم الاستيراد بالنسبة للسودان والذي يُقدّر بـ 8 مليارات دولار، ونوّه عز الدين لضرورة الاعتماد على أنفسنا، خَاصّةً وأنّ المبلغ المدفوع لا يُساهم في مُعالجة مشكلة البلاد الاقتصادية لمحدوديتها، وأبدى تساؤلاً، ثُمّ ماذا بعد انتهاء الوديعة والدعم المُقدّم؟ وطالب بضرورة الاتّجاه لعمل إصلاحات اقتصادية شاملة لكل القطاعات من حيث الزراعة والصناعة وغيرها، وقال إنّ الحراك الحاصل الآن في الساحة سياسيٌّ ولا يُصب في مصلحة الاقتصاد وحل المُشكلة بالرغم من الأسباب التي أدّت لقيام ثورة اقتصادية بسبب وجود عدد من الأزمات، وطالب المسؤولين للالتفات الى القضية الاقتصادية وحل مَشاكلها الأساسية، مُضيفاً أنّ القُرُوض والمِنَح لا تَسهم في الحل الجذري بالبلاد.
** مشروعات تنموية
أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم د. محمد الجاك، قال إنّ القُرُوض والمِنَح تُعتبر واحدة من مصادر إيرادات الدولة، وعلى الرغم من ذلك هنالك تحفُّظٌ من أن تلجأ الدولة لتمويل الخدمات التنموية لما لها من أضرارٍ سالبةٍ على مُستوى الاقتصاد في الوقت الحاضر أو المُستقبل، واشترط أن تكون ذا فائدة إذا وجّهت إلى تمويل مشروعات تنموية، مُضيفاً أنّ ما حدث في السودان في شأن القُرُوض والمنح التي تم الحُصُول عليها في الوقت الحالي أو مُستقبلاً، إنّها لم تُستخدم في المجال الإنتاجي ويغني البلاد عن طلب قُروض مُستقبلاً، ويُمكن أن تصبح الدولة مقرضة إذا استخدمت في مجالات إنتاجية، ولكن وقع الحال في البلاد إما أنها لا ترى بالعين أو تدخل في مصلحة أشخاص بعينهم وهذا لا يدعم الاقتصاد!
** تخفيف حِدّة الأزمة
وأشار الجاك إلى البنيات الأساسية، وأنها الدافع الأسَاسي لطلب القُرُوض كإنشاء الطُرق ومَحطات ومَراكز الكَهرباء والبُحوث، والحَاصِل بالبلاد في الفترة الأخيرة، أن الجهات التي من المُفترض أن تَستلم تلك المبالغ لا تَعلم عنها شيئاً، وهذا يكاد يكون السّبب الأساسي الذي أبعد البلدان النّاجحة من عدم تشجيع الدول للاعتماد على القُرُوض، إحصائياً إن العون الأجنبي من الدول المَانحة شهد انخفاضاً كبيراً من الخمسينات حتى الآن، وفي السابق كانت تُشكِّل أكثر من 60% من الناتج القومي، والآن لا تتعدى 20% من الناتج القومي، فالدول النامية لا تُوجّه القروض لتنمية طاقاتها والاعتماد على أنفسها، وفي الفترة الأخير بالسودان نسمع كثيراً بها، هل اُستلمت أم لم تُستلم؟ لهذا السبب لم تُساعد في تخفيف حدّة الأزمة الاقتصادية وتحسين المُؤشِّرات كالتضخم وسعر الصرف ومعدّلات البطالة، كل هذه المُتغيِّرات يُمكن أن تشهد تحسناً إذا اُستغلت القُرُوض بالشكل الصحيح حتى تدعم الاحتياطي من النقد الأجنبي، وبالتالي التأثير على سعر الصرف وتقليل المديونيات، ويصبح السودان من الدول المُستحقة لتلقي القُرُوض والمِنَح، وقال: إذا كانت مديونياتك مُتنامية فهذا يضعف الحُصُول على القُرُوض، فالقرض ليس له أثر مما يجعل هناك ضرورة لكيفية استغلاله، مُشيراً للفترة التي أعقبت انفصال الجنوب التي شهدت دخول إيرادات كبيرة من البترول، ولكن للأسف لم يتم استغلالها، فالبترول يدخل عملة صعبة وكذلك القروض والمِنَح فعدم معرفة قيمتها وأين تم توريدها، جعلت القُرُوض والمِنَح ليست ذات أثر ولم تسهم في تحسين الوضع الاقتصادي.
الخروج من الاحتقان
فيما أكّد الخبير الاقتصادي د. الفاتح إبراهيم لـ(الصيحة) أنّ المقصود من الوديعة تنفيس الأزمة، وقال إنّ الغرض ليس اقتصادياً فحسب، وإنما مساعدة الحكومة في الخروج من الاحتقان الحالي الموجود في صفوف الوقود والنقد الأجنبي وارتفاع الأسعار، لافتاً إلى أنّه في الغَالب استخدام الوديعة في إطار الحفاظ على معقولية سعر الجنيه مُقابل الدولار وعلى المكاسب التي تم تحقيقها في الأيام الماضية بتراجع سعر الدولار الى 45 جنيهاً، لحين تحقيق عائد صادرات خلال الأشهر الأربعة القادمة، ودخول رسوم عبور نفط الجنوب مِمّا يحقق استقراراً في الأسعار، لجهة أنّ الغلاء من أكبر أسباب التّظاهرات، وأوضح أنّه من المُتوقّع في المقام الأول المُحافظة على مكاسب الحكومة في رفع قيمة الجنيه، واعتبر منشور بنك السودان المركزي بتحديد سعر الدولار بواقع 45 جنيهاً مُحاولة منه لحماية الصادر، فهبوط الدولار والصّادر مُعادلة ذات شقيْن تجعل من الأهمية بأن يتروى بنك السودان ليدرس خيار سعر الصرف الذي يتناسب مع حاجة الاقتصاد السوداني.