د. أحمد سمي جدو يكتب : الدولة السودانية بين مطرقة الهوية وسندان التقسيم (الحلقة الأخيرة)
مواصلة لما طرحناه من رؤى حول المخاطر التي قد تنجم من تقسيم الدولة السودانية إلى دويلات متناحرة، ضمن سلسلة قديمة من الاستراتيجيات الاستعمارية، عندما تكالبت الدول الاستعمارية على أفريقيا، بموجب مؤتمر برلين في العام 1884م، الذي طرح تقسيم أفريقيا إلى مناطق نفوذ، من خلالها تستطيع تلك الدول أن تستغل خيراتها ومواردها وثرواتها الزراعية والنباتية والمعدنية والطبيعية لرفاهية شعوبها على حساب الشعوب والأمم الأفريقية.
بالنسبة للسودان، نقول بأن حدوده السياسية في إطارها العام غير متناسق، وغير منسجم مع الواقع البشري بصفة عامة، ومثال ذلك الحد السياسي بين السودان وتشاد، واثيوبيا واريتريا وأفريقيا الوسطى، بحيث أبقى على جزء من القبائل داخل تشاد واثيوبيا، واستبعد بعض القبائل وراء الحد السياسي داخل السودان. فهذا الموقع قد فرض على السودان وسطية سياسية، بحيث أصبح عدد جيران السودان حتر هذه اللحظة ست دول
وهذا رقم مرتفع وليس له نظير في القارة الأفريقية، إلا الكنغو كنشاسا، التي تحاط
بتسع دول. وهو ما يفسر لنا إمكانيات السودان المتمثلة في قوة جذبه السكانية لوافدين من حوله، وخاصة من جهتي الغرب والشرق، لأن النطاق الرعوي يجري من الغرب إلى الشرق.
وعليه، فإن السودان من الدول الأفريقية المستهدفة بالتقسيم والتجزئة والتمزق، من قبل الغرب بصفة عامة، ومن أمريكا بصفة خاصة. وذلك لتنفيذ أجندتها وخدمة مصالحها في المنطقة. فمن مصلحتها أن يعيش السودان أوضاعاً مأساوية، وألا يحدث فيه استقرار سياسي يفضي إلى بروز دولة مدنية قوية،
وذات سيادة على كامل أراضيها، وإلا فلماذا ساهم الغرب في انفصال الجنوب عن الدولة السودانية الأم في 2011م؟!
يبدو أنّ السّبب في ذلك هو موقع السودان الاستراتيجي، الذي من خلاله تستطيع أمريكا أن تتصل اتصالاً مباشراً عبر عملائها ووكلائها من كرزايات السودان الجدد ، بوسط أفريقيا ، وشرق أفريقيا ، والقرن الأفريقي. ولن يحدث ذلك في حالة أصر الشعب السوداني على تكوين دولته المدنية الديمقراطية المستقلة،
على كامل أراضيه، وبعيداً عن سياسة المحاور والأحلاف السياسية. فكما قسم
الغرب مجتمعات الفولاني ، وشعوب الماندنجو ، والهوتو والتوتسي إلى دويلات
متناحرة ومتشاكسة، ونجحوا في فصل الجنوب عن الشمال في العام 2011م، فكذلك ظلوا يسعون سعياً حثيثاً لتقسيم السودان إلى خمس دويلات متحاربة
ومتناحرة للسيطرة عليها، ونهب ثرواتها ومواردها وتوظيفها لرفاهية شعوبها.
لأننا من دول العالم الثالث، التي لا تستحق أن تعيش وتقوى، وتزدهر وتتجه نحو
الرفاه الاجتماعي، بعيداً عن أي هيمنة أو سيطرة أجنبية. ولذلك فقد ظل الغرب
يتدخل في كل شأن من شؤون السودان دون أن يُطلب منهم ذلك. لأن عملاءهم في الداخل هم الذين يقومون بهذا الدور بالوكالة دون مراعاة لمصلحة الشعب السوداني. ودليلنا على ذلك أن هؤلاء الكرزايات الجدد الذين جاءوا إلى السودان بعد نجاح الثورة السودانية المجيدة، وهم يحملون الجنسيات المزدوجة، قد عملوا على سرقة الثورة واستأثروا بالسلطة دون أصحاب المصلحة الحقيقية، الذين
فجّروا الثورة ومهروها بدمائهم الطاهرة الزكية ، وقدموا تلك التضحيات الجسام في موقف بطولي نبيل، أثار إعجاب كل العالم بالسلمية التي تميزت بها الثورة السودانية، وبسالة شعب السودان قاهر الديكتاتوريات وصانع الثورات، من لدن
ثورة أكتوبر 1964م، وثورة أبريل 1985م، وثورة ديسمبر المجيدة 2019م.
فهؤلاء الكرزايات السودانيين، سوف لن يهدأ لهم بالٌ إلا بعد أن يكملوا الدور المنوط بهم أن يلعبوه في تقسيم السودان إلى دويلات فاشلة ومتناحرة، لتعيش ظروفاً مأساوية، كما يحدث في الدولة الصومالية. لأنهم أجانب تربوا وترعرعوا
في أحضان الغرب ، وشربوا من ثقافته حتى الثمالة، وبهروا بالحرية الممارسة فيه، فجاءوا وكلهم أمل وحماس في أن يجعلوا من السودان إحدى الولايات الأمريكية
من حيث العرى والتبرج والتفسخ الأخلاقي، والتمرد على العادات والتقاليد والقيم
المجتمعية.
وعليه، فإن هذا الاستهداف الأمريكي الذي يمارس على السودان في العلن، ومن خلال البيانات والتحذيرات المستمرة، للقائد العام للقوات المسلحة السودانية، بضرورة عودة حكومة الكرزايات المتأمركين، دليل على سوء النوايا، وإضمار الشر للشعب السوداني، الذي أوصلهم إلى هذا المجد والسؤدد تحت مظلة المدنية ومطلوبات التحول الديمقراطي عبر الحكومة الانتقالية الجديدة التي أرجو أن يعمل القائد العام للجيش السوداني على تشكيلها من خبراء أكفاء لديهم القدرة والخبرة في مخاطبة قضايا معاش الناس، وقضايا التنمية والتعليم والصحة، بعيداً عن المحاصصات والمساجلات الحزبية، توطئة لتقديم مصلحة الحزب على مصلحة الشعب السوداني الصابر..!
فإذا كان الأمريكيون يريدون لنا خيراً، كان بوسعهم وفي مقدورهم تقديم العون العيني والمادي للسودان، بمجرد نجاح ثورته، وإعفاء ديونهم المستحقة عليه، بل وتعويض الشعب السوداني عن فترة الحصار الذي فرضته أمريكا على الشعب السوداني سنين عدداً. ومساعدته وهو يتلمس طريقه نحو تأسيس دولته التي يريد. لا أن تقوم بإجباره على دفع غرامة مالية باهظة الثمن عن جرم لم يرتكبه
أصلاً. فهذه مغازلة مرصودة الأهداف وغير مبرأة عن الأجندة الخفية التي يمتلكها هؤلاء العملاء الذين يحاربون شعوبهم بالوكالة عن أمريكا والغرب.
وفي الختام، فنحن كشعب سوداني في غنىً عن حملة الجنسيات المزدوجة، لأن الذي تخلى عن جنسية وطنه، قد تخلى بالضرورة عن هويته السودانية وارتضى هوية أخرى. وبهذا الفهم فهؤلاء ليسوا في وضع يمكنهم من إدارة دفة الحكم في الدولة السودانية، بحكم أنهم أجانب أو مجنسون من أصول سودانية..!
فحواء السودانية قد أنجبت الكثير من الخبراء الوطنيين، الذين بوسعهم إدارة شؤون
البلاد والعباد ، واخراجها من هذا المستنقع الآسن الذي أوصلونا إليه . وحتى تلك
الأحزاب الأربعة التي تمكنت من سرقة الثورة قد استبدلت تمكيناً بتمكين من نوع آخر قوامه وزراء فاشلون وفاسدون ، وليست لديهم أدنى خبرة أو تجربة في ادارة ما أوكل إليهم من مهام ومسؤوليات. ودليلنا على ذلك بأن سيطر الشيوعيون على
الجامعات السودانية، والبعثيون على المالية ، والناصريون على الخارجية ،
والجمهوريون على الثقافة والتعليم ، بعد أن قاموا بإقصاء كل الخبرات السودانية الأخرى من المشهد تماماً.
وعليه فقد آن الأوان لتلك الأحزاب الأربعة، أن ترجع إلى قواعدها لترتيب أوضاعها ووضع خططها، واعداد برامجها التي تؤهلها لخوض انتخابات يوليو
2023م. كفانا محاصصات ومساجلات وتتريس للشوارع ومنع النساء الحمل من الوصول إلى مستشفى الدايات، والكهول والمرضى إلى المستشفيات والمراكز الصحية المختلفة، والمواطنين من الوصول إلى أماكن عملهم وورشهم
ومتاجرهم لمزاولة أشغالهم ، وتوفير قُوت عيالهم. بل وفي بعض الأحياء فقد حاول
بعض الرجرجة والسوقة والدهماء والسابلة، منع الجنازة من الوصول إلى المقابر.
فإذا كان هؤلاء يقومون بتحريض أتباعهم لممارسة هذا السلوك المشين، فكيف لهم أن يتحدثوا باسم المواطن الذي أذاقوه الأمرين، بعدم التفاتهم إلى
معاناته، وكيفية تدبير معاشه، بل غلبوا مصالحهم الشخصية الضيقة على مصالح
الوطن وبكل صفاقة، وبدون خجل يتحدثون عن الحرية والسلام والعدالة. إنها والله
القسمة الضيزى، والعقبة الكؤود في سبيل نهضة السودان وازدهاره وتطوره.
ولكن فات عليهم أن السواد الأعظم من الشعب السوداني في انتظار تكوين حكومة
كفاءات وخبرات مسؤولة وملتزمة أخلاقياً ، ومهمومة بمعاش الناس ، وقادرة على
تقديم الخدمات الضرورية من صحة وتعليم ومواصلات ، وتهيئة البلاد لخوض
انتخابات حرة ونزيهة ومراقبة دولياً وإقليمياً، يخوضها الكل، فاز من فاز وخسر من خسر..!