د. أحمد سمي جدويكتب : الدولة السُّودانية بين مطرقة الهوية وسندان التقسيم (3)
الواقع الذي تناولناه في المقال السابق، قد يسهم في بروز بعض المُشكلات، باعتبار أن كل المناطق الآهلة بالسكان هي مجالات امتداد، من شأنها إضعاف الروابط الحضارية عند ظهور صورة من صور النزاع على الحدود، بشكل يؤثر على الأمن والاستقرار. ولعله من المُفيد محاولة التعرف على واقع السكان وتجمعاتهم، ومحاور الحركة التي أعطتهم فرصة الوجود المادي في السودان، ومن ثم المساهمة في النسيج الاجتماعي، من خلال الكيانات الوافدة إلى السودان، من مناطق التخلخل السكاني، أو الطرد السكاني باتجاه مناطق الجذب السكاني في دارفور وكردفان والجزيرة وبورتسودان. وعلى هذا الأساس فإن السودان يمثل موقعاً استراتيجياً ووسطياً لالتقاء وانتهاء تحرك الموجات والهجرات البشرية نحوه. ممّا جعله وطناً مشتركاً لعبت فيه الروابط الاجتماعية الدور الحاسم في عملية النسيج الاجتماعي، بحيث أصبح السودان في عهود مختلفة قديمها وحديثها، عُرضةً للتنوُّع والتباين الحضاري والثقافي والعرقي والديني. الذي من شأنه أن يحقق التعايش السلمي والقبول بالآخر، باتجاه تحقيق الوحدة السياسية المطلوبة، أو حدوث العكس تماماً، اذا فشلت الدولة في إدارة هذا التنوُّع، الذي قد تنجم عنه بعض الصراعات والنزاعات، من شأنها تعطيل مشاريع التنمية في الريف والحضر على حد سواء.
وعليه, فإن وظف هذا الواقع السوداني توظيفاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً جيداً، لأنتج لنا مُجتمعاً مُتجانساً ينتمي لوطن واحد هو السودان، يقطن أهله أرضاً محددة، ويُدين بالولاء لدولة واحدة، هي الدولة السودانية ذات السيادة, مُستندين في ذلك على قاعدة أن مكونات المجتمع السوداني التي تمثل العامل الحاسم في تحديد الهوية، وإبراز ملامح وسمات وخصائص الشخصية السودانية، من خلال الاعتراف بالآخر، حتى نجلب الاحترام لهذا التنوع الثقافي والعرقي والديني، وصولاً إلى التسامُح وعدم التعالي على الآخر. الأمر الذي سوف يَسهم حتماً في وجود الدولة التي نُريد، والتي تنعدم فيها الحياة الطبقية، وتزول عنها النعرة العُنصرية البغيضة. فبدلاً من أن يكون الولاء والانتماء للقبيلة، نأمل بأن يكون الولاء للدولة أو الوطن، ونقصد به الأرض السودانية التي تسع الجميع، من حيث وفرة الأراضي الزراعية، والمراعي والمياه وفرص العمل. ولنسأل سؤالاً وهو ما الذي يجمع بين السودانيين لتكوين دولة يرضى عنها الجميع، ويدافع عن كرامة شعبها الجميع، وما هي الطريقة المثلى أو الأسلوب الذي من خلاله يُمكننا تحقيق ذلك؟
نعتقد جازمين بأن ما يجمع السودانيين هو العقد الاجتماعي Social Contract الذي يتم فيه التراضي بين مكونات المجتمع السوداني المتعدد اللغات واللهجات،
والثقافات والعادات والتقاليد. ومن خلال تطبيق نظام الحكم الفيدرالي، لأنه يقوم
بحفظ خصوصية كل ثقافة وبموجب الدستور، والقانون المنظم لذلك. على أن الغاية
من ذلك هي المساهمة في بناء الدولة السودانية، على أسس ومعايير تسهم في تحقيق
العدالة الاجتماعية، وترعى المصالح المشتركة، بحيث لا تطغى ثقافة الأغلبية على الأقلية أو العكس. الأمر الذي يخلق بعض المظالم، ويولد الشعور ببعض المرارات لدى بعض الأقليات، التي لم تشارك في الحكم وادارة شؤون الحياة الأخرى، على الأقل على المستوى المحلي. الأمر الذي يمهد لبروز الصراعات الجهوية أو الإثنية أو العنصرية، أو القبلية أو المناطقية، تحت مظلة الصراع بين المركز والهامش.
وعليه, فلا بُدّ للدولة أن تساوي بين رعاياها، وتسعى إلى تحقيق رغباتهم، وأن تسمع
إلى شكواهم، وتتفهّم أوضاعهم، وأن تعمل على إيجاد الحلول الجذرية لها أو بعضاً منها، حتى ينمو لديهم الحس الوطني والانتماء للوطن، والدفاع عنه وعن رمزيته، وفق القواسم المُشتركة كاللغة المشتركة، والتاريخ المشترك، والمصير المشترك، والدين والمُعتقد، ونظام الحكم والدستور، والعملة النقدية، والعلم كرمز للسيادة والحرية، والنشيد الوطني الذي لا يرمز صراحة أو رمزاً إلى مجموعة مضطهدة، وأخرى مهيمنة ومسيطرة على الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وإنما يعبر عن هوية كل الأمة، وكرامة كل الشعب السوداني.
مخاطر تقسيم الدولة السودانية إلى دويلات متناحرة:-
ولما كانت الدول الاستعمارية التي تكالبت على أفريقيا، بموجب مؤتمر برلين في العام 1884م، تنوي تقسيم أفريقيا إلى مناطق نفوذ من خلالها تستطيع أن تستغل خيراتها ومواردها وثرواتها، الزراعية والنباتية والمعدنية، والطبيعية لرفاهية شعوبها على حساب الشعوب والأمم الأفريقية. نجدها قد اهتمت بمسألة الحدود السياسية بين الدول، كقنابل موقوته، يمكن أن تتفجر في أي وقت، وتتطور إلى حروب بين الدول الأفريقية، أو حروب أهلية ذات طابع ثقافي أو عرقي، أو طائفي أو ديني تتعطل من جرائها مسيرة التنمية والتطور في أفريقيا.
والشاهد على صدق ما نقول، إن الاستعمار قد قام بتقسيم شعب الفولاني في غرب أفريقيا إلى ثماني دول، وشعب الماندنجو إلى سبع دول، والتوتسي إلى أربع دول، والهوتو إلى دولتين. وكل هذه الدول التي نشأت بفعل الاستعمار وبتخطيط منهجي مدروس، غايته تحقيق أهداف ومقاصد استعمارية محددة، بعد خروج المستعمر من تلك الدول، التي نالت استقلالها بواسطة حركات التحرر الأفريقي التي قامت فيها في ستينات القرن الماضي. فكان لا بد للمستعمر أن يترك وراءه هذا الكم الهائل من المشاكل وبعض العملاء الأفارقة، لخدمة أهدافهم الاستعمارية في أفريقيا حتى وهم خارجها. وعليه فإن القوى التي ظلت تتكالب وتتنافس في منطقة القرن الأفريقي، ووسط أفريقيا، وشرق أفريقيا، إنّما تَسعى للوصول إلى أهدافها عن طريق إثارة النزاعات والصراعات الإقليمية، واستغلال الأوضاع الداخلية لتلك الدول، لتحقيق أطماعها وأهدافها الاستراتيجية في المنطقة الأفريقية. ونقصد بتلك القوى الخارجية روسيا واسرائيل، وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. فهناك تواجد فعلي لقوات أمريكية في شرق أفريقيا، وتحديداً في عمان وكينيا. ودليلنا على ذلك المبادرة التي قدمتها أمريكا بشأن القرن الأفريقي في العام 2015م، ومبادرة البحيرات العظمي، التي ضمت كلا من رواندا وبروندي والكنقو الديمقراطية. بالإضافة إلى قواتها المتواجدة في كل من جيبوتي وإريتريا والصومال وإثيوبيا وكينيا. وهناك القاعدة الفرنسية السابقة التي أنشئت في جيبوتي عام 2002م، والتي تسمى بقاعدة " ليمونييه " والتي تعتبر أكبر قاعدة أمريكية دائمة في أفريقيا. كما أن هناك تواجدا عسكريا اسرائيلياً في باب المندب لأهميته التجارية. وتقوم سياسة اسرائيل في شرق أفريقيا بتوظيف القوى الناعمة، مثل نقل التكنولوجيا الزراعية، والتدريب الفني، والرعاية الطبية. والدليل على ذلك أن قامت إسرائيل بعلاج الرئيس أسياس أفورقي رئيس دولة إريتريا، وأحد الأطفال من جيبوتي، توطئةً للوجود المادي لإسرائيل في شرق أفريقيا، لخدمة أجندتها الخفية في المنطقة الأفريقية.
ومن إفرازات هذا الوجود الأجنبي في المنطقة الأفريقية، زيارة وزير خارجية اسرائيل ليبرمان، ورئيس الوزراء نتنياهو لغرب أفريقيا لأول مرة في العام 2016م. والتي قام خلالها بزيارة أربع دول في شرق أفريقيا، هي أوغندا وكينيا وإثيوبيا ورواندا، واجتمع في عنتيبي برؤساء كل من كينيا ورواندا وجنوب السودان وإثيوبيا وزامبيا وتنزانيا، بهدف توثيق العلاقات السياسية والعسكرية والتجارية.
وما محاولة إسرائيل للتقارب مع المسؤولين السياسيين السودانيين إلا مقدمة لخدمة أهدافها في المنطقة الأفريقية، لأن السودان يمثل القلب النابض لأفريقيا، والجسر الواصل بين غرب أفريقيا، ووسط أفريقيا، وشرق أفريقيا، حيث تكمن المصالح الأوروبية الاستراتيجية في المنطقة, خاصّةً وأنّ مؤتمر برلين قد وضع أسس تقسيم أفريقيا بين الدول الأوروبية دون مراعاة لأي تكافؤ لغوي أو ثقافي أو حضاري أو اقتصادي. الأمر الذي جعل الدول الأفريقية موسومة بلعنة هذا التقسيم العشوائي، ممثلاً في صور النزاع على الحدود بين الدول الأفريقية، أو ادعاء السيادة على منطقة ما، أو الرغبة في تكامل اقتصادي قد يجلب ضرراً لدولة ما.
بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية، لأنّ كثيراً من الوحدات السياسية التي تكونت
بحدودها الحالية، ليس لها من المقومات الجغرافية والبشرية التي يمكن أن تساعدها
على البقاء، أو الاستمرار كوحدة سياسية موحدة، وإنما عليها أن تعيش حالة من
التجزئة والانقسام والتمزق.
فالسودان قد كان واحداً من تلك الدول الأفريقية المستهدفة، خاصّةً وأنّه يمثل القلب النابض لأفريقيا كما أسلفنا، وذلك لموقعه الاستراتيجي والجغرافي المتميز بين خطي عرض 14 درجة و22 درجة شمالاً. وتبلغ مساحته مليون ميل مربع قبل انفصال جنوب السودان مكوناً دولته المستقلة في العام 2011م. فهذا الموقع قد جعل منه من ناحية علم الأجناس، أكثر إثارةً واهتماماً من أي قطر آخر، لأنّ الأجزاء الجنوبية منه تقع داخل نطاق السلالات الزنجية, بل ويحتل السودان موقعاً مهماً واستراتيجياً على الخريطة السياسية للقارة الأفريقية، في مساحة يتضمنها شكل غير منتظم إلى حد كبير، وغير متناسق مع كل الأشكال التي تتضمّن مساحات الدول المجاورة, إذ يشترك السودان بحدوده مع ست دول أفريقية، هي إثيوبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا ومصر.
وتكمن أهمية موقعه هذا في أنه يحاذي قطاعاً كبيراً من الوطن العربي، على
امتداد الأراضي الأفريقية، على محور عام من جهة الشمال، ويطل على منطقة
القرن الأفريقي. وهذا الموقع قد جعل منه مركز القلب من الأرض الأفريقية، الممتدة ما بين المشرق العربي والمغرب العربي. بالإضافة إلى موقع السودان الذي جعل منه المشرف وبشكلٍ مُباشرٍ، على البحر الأحمر، بحيث يمثل العُمق الاستراتيجي لمصر وللوطن العربي، بتوغُّله في الجنوب الأفريقي فيما وراء الصحراء الأفريقية الكبرى.
إنّ هذا الموقع المُتميِّز قد مكّن السودان من الإشراف على جبهة بحرية ظل يتّصل بها اتصالاً مباشراً بالعالم الخارجي، مما يُؤكِّد قدرة السودان على التحكُّم في تحرُّكات التجارة الدولية، على مُستوى محاور الطرق البحرية والجوية. كما يحتل السودان العُمق الأكبر من الأرض التي يشملها حوض النيل الأوسط، وروافده الحبشية، والتي ما زالت تشكل أهم مراكز الثقل في مجال تجميع السكان. وعليه فإنّ هذا الموقع يُحمِّل السودان مسؤولية كبيرة فيما يتعلّق بحجم ونوعية العلاقات مع جيرانه من الدول الأفريقية. وهذا الموقع قد جعل للسودان حدوداً تمثل أحياناً نُموذجاً من نماذج الحدود الهندسية أو الفلكية، حينما تتطابق مع خط من خطوط الطول, أو دائرة من دوائر العرض، مع ظاهرة تضاريسية تضع الفاصل وتُؤكِّد الفصل، بحيث يبدو الحد في بعض أجزائه مُجَرّدَاً من كل مُساندة تفرضها ظاهرة طبيعية أو بشرية مُعيّنة.