*شكونا مُرّ الشكوى من الشمولية وعسفها، ومن بطشها وظُلمها، ومن انحرافها عن الديمقراطية وتجاوُزها، ومن انتهاكها للحُقُوق، وهضمها للحُريّات وتغييبها، ومع ذلك نرسل رسالة لأجيالٍ لم تُعاصر الديمقراطيات، ولم تَسعد بالعيش في ظِلِّها، أن الاصطبار على الديمقراطية، أكثر مَشَقّةً ورهقاً من مقاومة الشموليات والوقوف في وجهها.
*ذلك أنّ الشموليات إنّما تعتمد في حكمها على الرأي الذي لا يُغالبه أحدٌ، ولا يقف في وجهه أحدٌ، لكن الديمقراطيات، إنّما تعتمد ميكانزمات الرأي والرأي الآخر، والحجة ووجاهتها، والمنطق وقُوة عارضته، ومن ثمّ فإنّه لا يسعف في ظلها إلا صبر على ساحتها ودائرة نقاشاتها، ولذلك لم استغرب، وقد أضحت (الكراسي) لدى لقاء المجلس العسكري بأحزاب الحوار، لم استغرب أن تصبح الكراسي هي أداتها في دعم موقفها، وفي الانتصار لحجتها، ذلك أنّ هذه الأحزاب لم تَعش أجواء الدِّيمقراطية، ولم تعتاد رأياً مخالفاً لرأيها، وإنّما عاشت في كنف شمولية صنعتها على عينها، وعودتها على عطاياها، ولم تعتاد أنّ المواقف هي التي تقدِّمك، وأنّ الانتصار للحق هو الذي يثبتك، وأنّ الرهان على الشعب هو الذي يحملك.
*يدخل السودان اليوم من بعد ثورة ثالثة مجيدة، يدخل مرحلة الديمقراطية الرابعة، بعد ثلاثين عاماً غابت فيها الديمقراطية ومَعالمها، ولم يُعايش هذا الجيل الديمقراطية ونقاشاتها وأُطروحاتها، وضرورة احتمال الآخر مَهما اختلفت معه، ومهما تباينت الرُّؤى بينك وبينه، ومثل ما قال أبو الاستقلال الزعيم الأزهري رحمة الله عليه، إنّ الحُرية نارٌ ونورٌ، فمن أراد نورها عليه الاصطلاء بنارها.
*كَثيرون ربما بدوا مُتخوِّفين من حالات تَفلُّت هُنا وهُناك، لكنه الخُرُوج من الحبس والكَبت والضِيق إلى الفسحة والسِّعة، الثّورات مَعروفٌ عنها أنّه يُصاحبها ثوران وفوران، لكن مِن بعد حين، فإنّ الناس ستكون على يقين، أنّ أخذ القانون باليد، ليس هو الذي يرسم طريقها، ويأخذ بحقها، إنّما الاحتكام إلى القانون ودولته، هو الذي ينصفها ويقتص مِمّن ظلمها.
كذلك الرسالة للأجيال الصّاعدة والرّائدة والتي قَادَت ثَورتنا وحَقّقَت ظفرنا، أنّه ليس صَحيحاً ما يشيعه المُناصرون للشموليات والدّاعون لها، إن الشموليات عطاؤها أكثر وإنجازها أكبر، هذا مردود عليه من عدة نواحٍ، أولها أنّ النظم العسكرية الشمولية حكمت السودان 52 عاماً، في حين لم تجد الديمقراطية طوال عهود ثلاثة عاشتها إلا 11 عاماً، هي كل الفترة التي سَمَحَ لها بالحكم فيها، ومن ثَمّ لم تجد فسحة زمنية لتُجرِّب برامجها ولتُؤكِّد صلاحيتها، ونقول بالذي قال به الراحل المحجوب في كتابه (الديمقراطية في الميزان) إنّ أدواء الديمقراطية، تُعالج بالمزيد من الديمقراطية.
*النُّظم الشُّمولية، لأنّها لا تتقيّد بالمُؤسّسية، ولأنّ رأي الفرد فيها هو الذي يسير حكمها، وهو الذي يصدر قراراتها، ومن ثَمّ فهي بهذا يتصوّر مُناصروها، أنّها تملك القُدرة على اتّخاذ قرارها وعلى إنجاز مَشروعاتها، عَلاوةً على أنّ طُول فترتها الزمنية يُصوِّر لمُحاسبيها أنّها حَقّقت قَدرَاً مَا تراه إنجازاً لها، في حين أنّ النظم الديمقراطية، لاعتمادها المُؤسّسية وتمريرها كل شيءٍ عبر الآلية، ولأنّ تاريخنا السِّياسي لم يُوفِّر الغَلَبَة لحزبٍ من أحزابنا، وإنّما هي حكومات ائتلافية، ولأجل ذلك يَظهر لنا سلحفائية قراراتها وبُطء مشروعاتها.
*على أنّ الأهم من كل ذلك، أنّه في ظل الديمقراطية والحُرية والحكم الراشد تتوفّر الشفافية، ومن ثَمّ لا مساحة للفساد ولا فُرصة لإنتعاشه، في حين أنّ النظم الشمولية بسبب كبتها وعسفها وشُمُوليتها وتجاوُزها للحرية وتغيّبها، فإنّ الفساد يفرخ في ظِلِّها، ومن ثَمّ هو يُؤدي إلى فشلها، وفي آخر الأمر إلى انهيارها.
|