لونت أشعاره سماء الوجدان السوداني حسين بازرعة .. (رائد الفصعامية)!!
كتب: سراج الدين مصطفي
(1)
حسين بازرعة..لا يحتاج لأي شكل من أشكال التعريف..فهو علم ونار ونور ويكفي جداً ما سطره من أغنيات شكلت وجدان جيل كامل ومازالت إلى الآن تشكل حضوراً طاغياً ولم تعرف الغياب في أي لحظة..لأنها تكاملت فيها كل عوامل البقاء ورغم رحيل مؤديها العبقري عثمان حسين ولكنها باقية تحمل مضادات ضد النسيان وتسكن أقصى مكان من ذاكرتنا الجمعية…وهذه محاولة للتوقف قليلاً في بعض محطات سيرته الذاتية الناصعة.
(2)
ولد حسين محمد بارزعة في مدينة بورتسودان عام 1928 وكان والده سر تجار مدينة سواكن المهجورة قبل افتتاح ميناء بورتسودان عام 1908, وكان أبوه أديباً يحفظ الشعر وينظم بعض القصائد وبعد وفاة والده تولى الأعمال شقيقه الأكبر علي بازرعة وكان رئيساً لفرع حزب الأمة بورتسودان ووكيلاً للإمام عبد الرحمن المهدي ـ طيب الله ثراه ـ ولذا كان الشاعر حسين بازرعة تربطه صلة قوية بآل المهدي.
(3)
كان حسين بازرعة موهوباً منذ صغره وكان حسن الصوت ومتعدد الملكات ـ مثل لعب كرة القدم فقد كان رئيساً لنادي حي العرب الشهير في بورتسودان لاحقاً..وكان على قدر من الوسامة والذكاء الحاد..وتلقى دراسته الثانوية في وادي سيدنا وكان قليلاً ما تجد أبناء من شرق السودان يأتون إلى الخرطوم أو أم درمان للدراسة في مدارسها ،أولاً لبعدها من بلادهم وثانياً لاختلاف عاداتهم وتقاليدهم عن بقية أهل السودان. تقريباً بعد جيل بازرعة أو الشخص الذي أتى بعده إلى وادي سيدنا كان الشاعر أبو آمنة وهو أيضاً هدندوي من شرق السودان.
(4)
ظهرت موهبة بازرعة وانصقلت في وادي سيدنا التي ألهمته بجمالها وميادينها الخضراء وشاطئ النيل والطبيعة الخلابة، فكتب فيها أغنية(ليالي القمر) التي كانت من أولى الأغاني التي تغنى بها عثمان حسين في بداية لقائه مع بازرعة.. ويلاحظ في لغة الشاعر حسين بازرعه ميله وجنوحه للغة هجين في كتابة الشعر وقدرة خارقة في المزاوجة ما بين اللغة العامية واللغة الفصحي .. وتتسم معظم قصائده (بالفصعامية) ..
(5)
في الحقيقة، إستطاع بازرعة توسيع فكرة ما يمكن أن تشمله اللغة العربية الفصحى، من خلال العبارات والمفردات التي يمكن أن يستخدمها وتدرجها، حتى دون انتهاك القواعد النحوية. عندما استخدم عبارة مثل (مسفوحة) التي وردت في أغنية قصتنا .. خصوصاً في المقطع الذي يتحرك فيه إيقاع الأغنية بشكل متسارع :
كل طائر مرتحل
عبر البحر
قاصد الأهل
حملتو أشواقي الدفيقة
ليك ياحبيبي للوطن
لترابه لشطآنه
للدار الوريقة
لكن حنانك لي أو حتي مشاعرك نحوي
ما كانت حقيقة
كانت وهم … كانت دموع
(مسفوحة بي أحرف أنيقة)
وأغنية (قصتنا) نموذج باذخ للمزاوجة ما بين الفصحي والعامية .. ويبدو من الناحية الظاهرية أن الازدواجية الشعرية واللغوية لا تُمثّل التهديد الذي يُخشى منه البعض ، ولكن يمكن القول أنها مجرد حالة لغوية عفوية تنشأ بضرورة الاختلاط والاختلاف، وهو الرأي الذي يرى أصحابه طبيعية الظاهرة وملازمتها لكل اللغات، دون تغلب أحد اللغتين الداخليتين على الأخرى، فلا الفصحى تتغير أو تنتصر، ولا العامية تتبعثر وتندثر.
(6)
ومن الجمل الجديرة بالمناقشة في أشعار حسين بازرعة ، بأنه “ارتفع بشعر العامية من مقام الزجل إلى آفاق الشعر”. وهو قول يكثر فيه الحديث، وإن كنت أرى أن الفضل يعود في ذلك إلى أستاذه قرشي محمد حسن الذي كان سبباً في لقاءه بالفنان عثمان حسين .. ولعل حسين بازرعة بقدراته الفطرية الخلاقة إستطاع رفع شعر العامية من الزجل إلى مقام الشعر، فأصبح يتناول في شعره العامي ما يتناوله شعراء الفصحى، بل إنه حمَّل العامية الإبداعية أفكاراً فلسفية وإنسانية لم يكن يوماً يتخيل أنها قادرة على حملها حينما قال في أغنية القبلة السكري:
أتذكرى فى الدجى الساجى … مدار حديثنا العذب
وفوق العشب نستلقى .. فنطوى صفحة الغيب
وإذ مالاح نجم سعد .. نرشف خمرة الحب
اتذكرى عهد لقيانا .. ويوم القبلة السكرى
وقبَّل ثغرى الظامى .. فقد لا تنفع الذكرى
وترقد فى يدى كالطفل .. الثم ثغرك العطرى
وقطرات الندى الرقراق .. تعلو هامة الزهر
بعد فترة وادي سيدنا رجع حسين بازرعة إلى بورتسودان حيث أمضى بضع سنين قبل اغترابه في جدة بالمملكة العربية السعودية..حيث ظل في غربة وعزلة حاول الكثيرون مقابلته وكسر جمود عزلته لكن لم يفلحوا.