د. أحمد سمي جدو يكتب: الدولة السُّودانية بين مطرقة الهوية وسندان التقسيم (2)
الهوية السُّودانية:
ولعلاج مُشكلة الهوية في السودان، كان لا بد من تطبيق النظام الفيدرالي، الذي يتناسب وطبيعة السودان الجُغرافية وتركيبته السكانية, باعتبار أنّ الفيدرالية هي التي تشكل العلاج الناجع للمشكلات السياسية، والصراعات بين المركزوالأطراف، أو المركز والهامش، وهذه هي المُشكلات التي ساهمت في تأخر مسيرة الدولة السودانية، لأن الانتماء للدولة من قبل المواطنين، إنما ينشأ لدى الشعوب التي تشكّلت قبل الدولة، مما يخلق أمة متجانسة كألمانيا، وشعوب أخرى تشكلت بعد نشأة الدولة كأمريكا وسويسرا والسودان، وهذه تسمى بالدول متعددة الإثنيات والتي تعاني كثيراً من صعوبة الانتماء للدولة الفيدرالية، لأنّ هذا التعدد الإثني والعرقي بل وحتى الديني، إنما يحمل في ثناياه الاختلاف في الثقافات والمُعتقدات، لكنه يتميّز بخصوصية تجعل كل إثنية تسعى للحفاظ على هويتها وثقافتها والدفاع عنها، حتى لا يتم التغول عليها من قبل الثقافات الأخرى أو تهميشها، عن قصد أو بدون قصد، الأمر الذي ولّد كثيراً من الصراعات بين المركز والأطراف، ومثال ذلك ظهور الحركات المسلحة ضد الدولة نتيجةً لانعدام برامج التنمية وكثرة مظالم الريف، وعليه فإن التجانس المجتمعي لا يوجد إلا في المدن ، لأن كل القبائل التي وفدت من الريف إلى المدينة قد ذابت تماماً في النسيج الاجتماعي لتلك المدن ولم تعد هناك ثقافة مسيطرة وأخرى مضطهدة، وهذا النوع من المجتمع المتجانس يمكن أن نجده في الخرطوم وأم درمان وبحري ومدني وبقية المدن السودانية الكبيرة.
أما في حالة المجتمعات غير المتجانسة فهذه توجد في الأرياف ، وذلك لوجود هيمنة وسيطرة من قبل ثقافة معينة، على ما عداها من ثقافات ، كما ظل يُروِّج لها من قبل بعض الأصوات التي تدعي بهيمنة الثقافة العربية والإسلامية على بقية الثقافات، وهذه الأصوات غالباً ما تصدر من الذين يريدون خلق صراع داخلي ثقافي إثني بين العروبة والأفريقية، خاصة وأن هناك اتهاما مفاده بأن هناك هجمة ثقافية عربية إسلامية على الثقافات الأفريقية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى بروز بعض الصراعات العرقية والثقافية بين مكونات المجتمع السوداني تحت مظلة الثقافة العربية وهيمنتها على ما عداها من الثقافات الأخرى، خاصة وأن السودان يسع الجميع ، ويجعل منه مناخاً جيداً للقبول بالآخر وإبراز مبدأ التعايش والتبادل السلمي للسلطة بعيداً عن الصراع العرقي أو الثقافي توطئةً لبناء السلام الاجتماعي مع الذات أولاً ثم مع الآخر، ونبذ العنف والعنف المضاد، وتعزيز السلام، وإعادة رتق النسيج الاجتماعي بين مكونات الدولة السودانية، والابتعاد عن بذر بذور الكراهية وتوفير النموذج والمثال للقبول بالآخر, فلا بد من التعبير عن الوطنية وحُب الوطن والتضحية من أجله، وألا نتعرّض إلى القضايا الهامشية التي قد تفضي إلى صراع غير مقبول بين ثقافة وثقافة، وبين إثنية وإثنية وعلى ضوء تعدد الثقافات فهناك مجتمع متعدد الثقافات، وفي داخله مجموعات لها خصوصيتها، المتمثلة في ممارسة عاداتها وتقاليدها الخاصة بها، والتي يجب أن تراعي وتحترم، وهناك قبائل أو مجموعات سودانية تستخدم لغات محلية كوسيلة للتواصل فيما بينها، وهناك مجتمعات أو قبائل سودانية، تستخدم اللغة العربية الدارجة كلغة تواصل، فلا بد من إعادة بناء النسيج الاجتماعي بشكل يجعل منه مُجتمعاً متماسكاً ومتميزاً، بعيداً كل البُعد عن الصراعات والنزاعات، توطئة لإبعاده عن مبدأ تكريس الجهوية والقبلية والمناطقية، وتوفير النموذج القومي للمواطن السوداني ، الذي نريد والذي يعبر عن الهوية السودانية بكل سماتها وخصائصها ومميزاتها ، إذا علمنا بأن السودان بلد متعدد الثقافات والأديان والأعراق ، والذي تم تصنيفه بعد انفصال الجنوب في العام 2011م إلى ست ثقافات هي :-
1/ ثقافة الوسط (المناطق التي حول ضفاف النيل).
2/ ثقافة قبائل كردفان.
3/ ثقافة البجا في شرق السودان.
4/ ثقافة الأنقسنا في النيل الأزرق.
5/ ثقافة دارفور الكبرى.
6/ ثقافة جبال النوبة.
وهذا التصنيف نجده في الواقع يعبر عن ثراء الثقافة السودانية وتنوعها، وقُدرتها على المُساهمة في صناعة وبناء السلام الاجتماعي. ومن هُنا تُبرز أهمية مُناقشة موضوع الهوية في السودان، الذي اعتمد النظام الاتحادي كنظام للحكم لأنّه وفي ظل هذا الوضع, فإنّ ذلك يمثل على الدوام الأزمة أو المُشكلة المركزية، التي تُعاني منها مكونات النسيج الاجتماعي في السودان، لأن كل مجموعة في السُّودان وبحسب تكوينها العرقي والثقافي عربي إسلامي، زنجي وأفريقي، إنّما يعبر عن سُودان مُتعدِّد الثقافات واللهجات واللغات والمُعتقدات، مع مُراعاة عوامل الدين واللغة، باعتبارها قواسم مشتركة، تعمل دوماً على تغذية وتوطين الوحدة الوطنية، ونبذ الفرقة والشتات، وإحلال التجانُس والانسجام، والتوافُق المُجتمعي المُفضي إلى القبول بالآخر، واحترام عاداته وتقاليده، ومعتقداته وأسلوبه في الحياة، بشكل ينعكس على السلوك العام للمواطن السوداني، الذي يسعى دوماً إلى إعادة بناء الدولة السودانية، باعتبارها وعاءً جامعاً وحاضنة لإثنيات وثقافات وقبائل وأجناس، اشتركت جميعها في صنع الواقع السوداني الحالي، الذي يُعبِّر تعبيراً صادقاً عن الهوية السودانية العربية الأفريقية الإسلامية، لأن لكل هذه المكونات الاجتماعية في السودان، ونعني بها القبائل المتعددة، ذات اللغات واللهجات المختلفة والعادات والتقاليد، قد انصهرت وامتزجت في بوتقة اجتماعية واحدة وأنتجت هذا الهجين العربي الأفريقي الإسلامي، الذي تظهر سماته من خلال التقاطيع والملامح والسحنة، التي ميّزت وتُميِّز الشعب السوداني على ما عداه من الشعوب والأمم الأخرى، خاصةً وقد تمّت هجرات عديدة باتجاه السودان تحت مظلة مُناصرة الدولة المهدية، التي ظهرت في السودان في العام 1881م، نتيجة لانتشار الدعوة المهدية في غرب أفريقيا، فأصبح الأفارقة ينظرون إليها على أنّها دعوة دينية يقودها ويبشربها المهدي المُنتظر، الذي كان عليهم أن ينحازوا إلى دعوته ويقومون بنصرته، لذلك تدفق سيل من المهاجرين من غرب أفريقيا باتجاه السودان، للانخرط في الدعوة المهدية، التي بشّرهم بقُرب ظهورها في الشرق، المصلح الديني عثمان دان فوديو، الذي أسّس الخلافة الصكوتية في شمال نيجيريا، وقد سار هؤلاء المُهاجرون من شمال نيجيريا عبر مايدوقري، وبرنو وباقرمي، ووداي، ودار مساليت، ثم كتم والفاشر، وأم كدادة والنهود، والأبيض وسنار، في إطار رحلات الحج إلى الأماكن المقدسة، وقد نتج عن هذه الهجرات تأسيس قُرى ومُستوطنات يزيد سكانها من الوافدين من خارج الحدود على العشرة آلاف نسمة ينتشرون في كل من قلع النحل، ومايرنو كنموذج ثم تتناثر القُرى في أجزاء مختلفة من دارفور، ومدن أواسط السودان، والخرطوم وكسلا والبطانة، وتعود إلى التجمع في بورتسودان وهؤلاء قد أطلق عليهم اسم (رواجع الحج) أي أنهم لم يرجعوا إلى أوطانهم، مُفضِّلين البقاء المستمر في السودان وبصورة نهائية. بحيث تمكنوا من تكوين جماعة سُكّانية مُترابطة.
بالاضافة إلى عوامل اللغة، التي جعلت من السودان بلداً مُتنوِّعاً من حيث اللغات واللهجات والثقافات، إذ نجد أن لغة الزغاوة مُشابهة للغة التبو من سكان تبستي، مما يدل على تأثر الإقليمين بلهجات مُتشابهة، استغلت هذا التداخل العرقي واللغوي والثقافي في تبرير وجودها المادي في السودان، مُضافاً إلى ذلك أن اللغة العربية نفسها قد ظلت تسير في نطاق واسع، يشمل كل المساحة الواقعة بين الخرطوم، وغرب السودان، بحيث تسير في سلسلة من الحلقات المُتّصلة، تشمل عربية الخرطوم، وعربية كردفان، وعربية دارفور، وعربية تشاد، وهي لغات تجاور بعضها بعضاً، وتتشابه بدرجات متفاوتة، من حيث أنها اللغة العربية الدارجة، ولكنها لا تتنافر أبداً.
ومن الآثار الاجتماعية التي نتجت عن هذا التداخل العرقي واللغوي الذي انتظم هذا النطاق الجغرافي الرعوي، التنظيم القبلي الذي يظهر من خلاله التشابُه الكبير الذي يجمع بين العادات والتقاليد، السائدة في منطقة حزام الهجرة والتقاليد الأفريقية المحلية، مع التركيز على الثقافة الإسلامية المُعتمدة على مجموعة الأسرة، وسيطرة مفهوم الولاء للقبيلة وقدسية علاقة الدم وصِلة القرابة.