د. أحمد سمي جدو يكتب : الدولة السُّودانية بين مطرقة الهوية وسَندَان التقسيم (1)
تعريف الدولة:
الدولة عبارة عن تجمع سياسي يؤسس لكيان ذي اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة، إذا علمنا بأن العناصر الأساسية لأي دولة هي الشعب والإقليم والأرض، وكيفية السيادة عليها، وضرورة الاعتراف بهذه الدولة لتتمكن من اكتساب الشخصية الدولية القانونية، التي بواسطتها يمكن لها ممارسة اختصاصاتها في مجال السياسة الخارجية، وبناء علاقاتها مع الدول النظيرة، وتتسم الدولة ببعض الخصائص الأساسية التي تميزها عن غيرها من الكيانات السياسية الأخرى، والتي يمكن إجمالها في قدرتها على ممارسة السيادة الكاملة على أراضيها وحدودها وهويتها باعتبارها صاحبة السلطة والقوة واليد العليا في اقليمها المحدد، الأمر الذي يجعلها تعلو فوق أي تنظيمات أخرى، أو جماعات داخل الدولة، بالاضافة إلى الطابع العام لمؤسساتها، وكيفية تعبيرها عن الشرعية، إذ غالباً ما ينظر إلى قرارات الدولة بوصفها قرارات مُلزمة للمواطنين الخاضعين لنفوذها، لأنها تعبر عن المصالح الأكثر أهميةً في الدولة، باعتبار أن الدولة هي أداة الهيمنة والمسؤولة عن بسط النفوذ وتحقيق السيادة الوطنية، باستخدامها لتلك الشرعية، لأن الدولة تمتلك قوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها وتشريعاتها، التي سوف تستخدمها في معاقبة المخالفين لها ، والمتمردين علي سلطتها السياسية، ثم هناك الطابع الإقليمي للدولة، باعتبارها تجمعاً إقليمياً مرتبطاً بحدود معينة، تمارس عليها الدولة اختصاصاتها باعتبارها وحدة سياسية مستقلة. وبهذه الصفة فإن الدولة تشير إلى مجموعة من المؤسسات ، وأجهزة الحكم ذات السيادة على الأرض المحددة ، والسكان الذين يقطنون تلك الأرض .
مفهوم الدولة :
لقد اختلف علماء السياسة في تحديد مفهوم معين للدولة ، باعتبار أن للدولة مكانة محورية في التحليل السياسي لمفردة الدولة. بحيث تظهر تلك المكانة من خلال جدليتين غاية في الأهمية، لأنهما تتعلقان بأسس الالتزام السياسي ، وطبيعة القوة السياسية التي تحرزها الدولة، في محيطها الاقليمي والدولي، والتي تنشأ من خلال نظرية العقد الاجتماعي Social Contract بين الحاكم والمحكوم من خلال تصور لشكل الحياة في مجتمع بلا دولة . وتتسم هذه الحالة لدى بعض المفكرين مثل هوبنز وجون لوك بالحروب الأهلية ، والصراعات المستمرة ، التي يخوضها الأفراد ضد بعضهم البعض، بما يعرف بحرب الكل بالكل ، أو الكل ضد الكل ، وهو ما يحتم على الناس ضرورة الاتفاق لعقد اجتماعي يضحون من أجله بجزء من حريتهم لإقامة كيان ذات سيادة، يستحيل بدونه حفظ النظام وتحقيق الاستقرار السياسي، مما يستوجب على الأفراد طاعة الدولة ممثلة في رمزها الحاكم، الذي ارتضاه الناس بموجب ذلك العقد المبرم سلفاً، والذي يمثل الضمانة الوحيدة للقضاء على الاضطراب والفوضى أياً كان مصدرها .
نشأة الدولة :
هناك العديد من النظريات السياسية التي اجتهدت في أن تجد تفسيراً شاملاً لنشأة الدولة، ومنها النظرية الإلهية التي يعتقد أصحابها بأن الدولة تنشأ بمشيئة الله تعالى، وأن الإنسان ليس عاملاً أساسياً في نشأتها . لأن الإله هو الذي يختار لها حكامها ليديروا شؤونها ، ونعني بها الدولة الثيوقراطية أو الدولة الدينية، وهناك نظرية القوة التي يرى أصحابها بأن الدولة تنشأ من خلال سيطرة الأقوياء على الضعفاء، ودليلهم على ذلك أن كثيراً من المجموعات الحاكمة اليوم قد اعتمدت على القوة والانقلابات في الوصول إلى سدة الحكم ، مستقلة خوف الأفراد من الحروب، وحبهم للاستقرار كوسيلة لبناء الدولة وتأكيد قوتها، وهناك النظرية الطبيعية التي ترى بأن الانسان كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره، اذ لا بد للأفراد أن يتعاونوا من خلال تفاعلاتهم الاجتماعية وأنشطتهم الاقتصادية في الميادين المختلفة . الأمر الذي يحتم على الجماعات ضرورة أن تكون لها قيادة ، أو سلطة تتطور إلى دولة ذات سيادة . وهناك نظرية العقد الاجتماعي التي يرى أصحابها بأن أفراد المجتمع قد اتفقوا على ضرورة قيام دولة من خلال اتفاقية أبرمت بين المجتمع والحاكم ، بحيث يتقبل الشعب حكم الدولة ،
وطاعة الحكومة، مقابل أن تعمل الدولة على تلبية حاجات الناس الخدمية والأمنية والصحية والتنموية. بل والعمل على تنسيق علاقاتهم مع بعضهم البعض، ومع الدولة على أساس الحقوق والواجبات، خاصة وأن الإنسان لا تصدر عنه أفعاله إلا باعتباره فرداً في ذاته، أو عضواً في أسرة، أو مواطناً في دولة، ومن المفكرين الذين ينادون بهذه النظرية، توماس هوبنز، وجون لوك، وجان جاك روسو .
نشأة الدولة السودانية :
تبدأ نشأة الدولة السودانية كوحدة سياسية مستقلة بالدولة المهدية، التي نجحت في القضاء على الحكم التركي المصري، وانتصرت عليه في كل المعارك الحربية التي خاضتها في الجزيرة أبا في 12 أغسطس 1881م بقيادة أبو السعود، وعلى حملة راشد بك أيمن في 9 ديسمبر 1881م، وعلى الشلالي في 30 مايو 1882م، وتوجت بموقعة شيكان الشهيرة في 5 نوفمبر 1883م، والتي تم فيها القضاء على قوات هكس باشا ونائبه علاء الدين، بعد أن تم عزلهما عن الخرطوم تماماً ومنطقة خط الاستواء . مما يعد نجاحاً للدولة المهدية الناشئة ، التي تمكنت من اجبار الحامية المتواجدة على النيل الأبيض بالتحول إلى الخرطوم، وتمثل معركة شيكان البداية الحقيقية للدولة المهدية، والنهاية الفعلية لدولة الحكم الركي المصري في السودان ، وذلك عندما قرر المهدي مهاجمة الخرطوم ودخولها عُنوةً في 26 يناير1885م، وتم قتل غردون باشا فانتهت بذلك دولة الحكم التركي، وبدأ تاريخ الدولة المهدية التي حكمت السودان حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ومما يجدر ذكره أنّ لدى الإمام المهدي فكرة لخلق أمة سودانية موحدة تحت مظلة الدولة المهدية، وبعيدة عن النظرة العنصرية الضيقة والمناطقية المبتسرة، ليرنوا الشعب السوداني إلى كيفية بناء دولة العدالة والمساواة الاجتماعية، ومحاربة الظلم الاجتماعي في كافة صوره وأشكاله، وبعد أن تولى الخليفة عبد الله مقاليد الحكم في السودان كخليفة للمهدي، قام بإصدار بعض القرارات القوية التي ضمنت له السيطرة الكاملة على الدولة وعلى كامل حدودها، الأمر الذي مكنه من وضع الاحتياطات اللازمة لتأمين موقفه في الداخل، والحفاظ على منصبه عندما نجح في إزالة كل ما من شأنه تهديد سلطته السياسية، بل وقام بتأمين موقفه عندما قام بتطبيق بعض السياسات، التي تمثلت في تكوين جيش جديد عرف بجيش الملازمين، وإقصاء بعض المتنفذين من الوظائف العليا في الدولة، ليتجنب نشأة حركات الانفصال والتمرد على الدولة .
وبالرغم من أن المهدي قد وضع اللبنات الأولى للنظام الاداري من حيث تكوين الجيش واعداده وتسليحه ، ووضع النظام المالي والنظام القضائي ، الذي يمكن أن تستند عليه الدولة في بسط العدل بين الناس وفرض هيبة الدولة، إلا أنه قد بدأ يواجه بعض الأخطار والمهددات ممثلة في حملة الإنقاذ التي خرجت في مارس 1885م لإنقاذ غردون باشا، الأمر الذي أسهم في انتقال الدعوة المهدية من مفهوم الدعوة الدينية والثورة إلى مفهوم الدولة، وقد انعكس ذلك على كامل رقعة الدولة في عهد الخليفة عبد الله 1885 – 1899م، بحيث اتّسعت الدولة بشكل ملحوظ ، مما أسهم في ظهور الشكل العام للنظام الإداري الذي اختطه المهدي كما أسلفنا، ونتيجة لتوسع الدولة، فقد توسعت الرقعة الإدارية في عهد الخليفة عبد الله ، الأمر الذي جعله ينتهج نظاماً ادارياً يستوعب ذلك التوسع ، بحيث تم تقسيم الدولة إلى عدة عمالات على كل منها عامل، ومنها عمالة الحلفاية وعمالة النيل الأزرق ، وعمالة شات ، وعمالة النيل الأبيض، مع ملاحظة أن هذه العمالات قد كانت ترجع في شؤونها المالية إلى بيت المال في أم درمان ، ولكنها لا تمتلك جيوشاً ، بل تعتمد على الجيش المركزي أو القومي الموجود في أم درمان .
أما العمالات الخارجية أو الحدودية ، ذات الطبيعة العسكرية ، والتي تقع على أطراف الدولة المهدية، مثل عمالة الغرب، والتي تم فيها دمج كردفان في دارفور، وعمالة البحر الأحمر التي دمجت فيها كل من كسلا وطوكر والقلابات والقضارف ، وعمالة دنقلا التي ضمت إليها بربر ولكل من هذه العمالات جيش خاص بها، بحكم وظيفتها العسكرية ولكل منها بيت مال وميزانية منفصلة، هذا وقد تمكن الخليفة عبد الله من تأسيس جيش عرف بالملازمين في العام 1886م، وكان جيشاً قوياً قام بوضعه تحت إشراف أخيه الأمير يعقوب جراب الرأي، كما أوجد الخليفة نظاماً قضائياً جعل على قمته أحمد علي قاضي الإسلام، وأنشأ محكمة للاستئناف في أم درمان برئاسة قاضي الإسلام، كما أوجد نظاماً للشرطة جعل على رأسه حسين محمد وهب.
وقد كان الخليفة عبد الله رجلاً سياسياً محنكاً وادارياً ناجحاً ، وإلا لما كان بوسعه أن يستمر حاكماً على السودان خلال الفترة الممتدة من 1885 – 1899م . وحتى موقعة كرري التي أنهت دولة المهدية كنظام سياسي ودولة مستقلة ذات حدود معلومة ، بالرغم من أنها قد ظلت تتمدد حيناً وتنكمش في بعض الأحيان . وبتوقيع اتفاقية 1899م في 19 يناير بواسطة بطرس غالي نيابةً عن حكومة الخديوي ، واللورد كرومر نيابةً عن حكومة بريطانيا ، وتعيين روبرت كتشنر حاكماً عاماً على السودان، كما تم تشكيل حكومة مركزية تضم ثلاثة أقسام وهي السكرتير الإداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي، وهؤلاء كانت مُهمّتهم مساعدة الحاكم العام في إدارة شؤون الدولة، وعلى الفور قامت الإدارة البريطانية بتقسيم السودان إلى ست مديريات في العام 1898م وهي دنقلا وبربر وكسلا وفشودة وكردفان والخرطوم، ثم أُعيد تقسيم السودان مجدداً إلى خمس عشرة مديرية، وذلك بترفيع بعض المحافظات إلى مديريات في العام 1902م. فجاءت المديريات على النحو التالي: مديرية حلفا، مديرية دنقلا، مديرية الخرطوم، مديرية بربر، مديرية سنار، مديرية الجزيرة، مديرية النيل الأبيض، مديرية فشودة، مديرية بحر الغزال، مديرية سواكن، مديرية كسلا، مديرية كردفان ومديرية دارفور، وذلك بإضافة ثلاث مديريات في العام 1905م، وهي النيل الأزرق والنيل الأبيض ومنقلا، وقسمت هذه المديريات إلى مراكز على رأس كل مركز مفتش من البريطانيين بحيث يضم المركز عدة أقسام صغيرة Sub-Districts وعلى كل منها مأمور من المصريين، تنحصر مهمته في الاتصال بالسكان فيما يتعلّق بالضرائب وحفظ الأمن. وفي عام 1915م تم تعيين سُودانيين في مناصب المآمير ونواب المآمير. وقد كانت مهام مدير المديرية تنحصر في مُحاولة كسب ثقة الأهالي، والعمل على تطوير مواردهم، والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة لهم، والتعرف على وجهاء البلد، وإظهار الاهتمام بالقضاء حتى يطمئن المواطن على تطبيق العدالة قولاً وفعلاً وإظهار الاحترام للدين الإسلامي.
أما في مجال الحكم المحلي: local Government Ordinance فقد تم تأسيس مراسم الحكم المحلي بثلاث صور، تمثلت في إدارة المدن والبلديات، والمناطق الريفية، مَا يعني التراجع عن الحكم غير المُباشر وذلك بالتخلِّي عن القبيلة كأساس، وقد استمر هذا التطور الإداري حتى العام 1951م عندما صدر قانون الحكم المحلي الذي يعتمد أساساً على المُستنيرين والمُتعلِّمين لتنفيذه على أرض الواقع مع استمرار الحال على ما هو عليه حتى نال السودان استقلاله في يناير 1956م، ليصبح دولة مستقلة ذات سيادة. وانطلاقاً من هذا الواقع الإداري والسياسي للدولة السودانية، والذي يتّسق تماماً مع بعض الأفكار والمفاهيم التي تدور حول نشأة الدولة، التي تفترض وجود عناصر أساسية لا بُدّ من وجودها لكي تنشأ الدولة، وهي المواطنون والإقليم والحكومة، أو النظام الحاكم، فضلاً عن الهوية الحضارية، ومن مُتطلبات إنشاء الدولة وجود سياسة خارجية واضحة الملامح والمعالم، وبعيدة عن المحاور، ووجود حكومة مُتّفق حولها، وجيش قومي واحد لحراسة أمن تلك الدولة، ودستور دائم يُحدِّد عقيدة الدولة ومَرجعيتها، وبعض القوانين المحلية التي لا تتعارض مع الدستو، ووجود نشيد وطني يُعبِّر عن سيادة الدولة واستقلالها، وذلك للحفاظ على الهوية السودانية والجنسية السودانية من الاختراق.