* شئنا أم أبينا، فالعسكر في العالم الثالث هُم رُمّانة ميزان السُّلطة سواء كانوا حاكمين أو كانوا في ثكناتهم. فالأحزاب في العالم الثالث غير ناضجةٍ، والتّنافُس بينها عبارة عن صراعٍ يصبح في كَثيرٍ من الأحيان دموياً، فالمعركة قد لا تنجلي فتتحوّل إلى حَربٍ مُستمرةٍ مُدمّرةٍ كالذي يجري الآن في دُولٍ عربيةٍ وأفريقيةٍ وآسيويةٍ عديدة.
* هذه الحروب تدفع ثمنها الشُّعوب ويقبض العُملاء (الوطنيون) عُمُولتهم، بينما يستأثر المُشتري الخفي بالبضاعة كلها دُون أن يدفع كثيراً.. فهي بضاعة لا يَعرف مالكها قيمتها إلا بعد فُقدانها.. إنّهم يبيعون أمنهم وسلامهم.. إنّهم يبيعون أوطانهم!
* في حالة السُّيولة التي تعيشها بلادنا هذه الأيام، وبينما العالم يتغزّل في انحياز قُواتنا النظامية لثورة الشعب وحِمَاية المُتظاهرين وإيوائهم في حرم القيادة العامّة للقُوّات المُسلّحة، والتقاء الجُهد الشعبي بالجهد النظامي بمهنه كافّة، تطل علينا قوى إعلان الحرية والتغيير لتهرف بما تملك وما لا تملك وبما تعرف وبما لا تعرف، فتقول للعسكر (كل القوة ثكنات جوّه)، وتضيف: (مُهمّتكم انتهت)، بينما تُخاطب المُعتصمين فتقول: (لم تسقط بعد) بمعنى أنّ المُهمّة لم تنتهِ.!
إذن نهاية المُهمّة هي استلام قوى إعلان الحرية والتغيير مُنفردةً كامل السُّلطة! ولا عزاء لأبنائنا الذين أخرجهم ضيق الحال وشُح النقود والوقود والقُوت، وقد خرجوا منذ اليوم التاسع عشر من ديسمبر 2018م وظلُّوا مُرابطين في القيادة العَامّة للقوات المُسلّحة منذ السّادس من أبريل 2019م، ولم يكونوا قد سَمِعُوا قبل انطلاق ثورتهم بقُوى إعلان الحُرية والتّغيير، نَاهيك أن يكونوا قد خرجوا من أجل تمكينها في كل مفاصل السُّلطة دُون شريكٍ ودُون انتخاباتٍ!!
* إذا كانت قُوى الحُرية والتّغيير لا تعلم أنّ عُمر السودان تحت ظل الحكومات الوطنية هو (63) عاماً، وأنّ الجيش قد حكم السودان (53) عاماً من هذه الفترة، فعليها أن تعلم ذلك. ونضيف لعلمها أنّ الجيش لم يحكم هذه المدة الطويلة إلا لأنّ الأحزاب فشلت في الحكم. ففي عام 1958م، دعا رئيس الوزراء عبد الله خليل بك، الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش وكبار الضباط لاستلام السُّلطة بسبب عجز الحكومة المَدنية المُنتخبة، وفي عام 1969م استلم صغار الضباط السُّلطة بقيادة العقيد جعفر نميري مدفوعين من اليسار، وَقَد كَانَ سَادة الحزبين الحاكمين (حَردانين) ومُعتصمين في بيوتهم!!، وفي 1989م لخّص زين العابدين الهندي الوضع بقوله: (لو شالها كلب مافي زول بقول ليهو جَـــــر)، فاستلم الضباط مُتوسِّطو الرُّتب بقيادة العميد عمر البشير، السُّلطة مسنودين بالإسلاميين. وأما المشير سوار الذهب 1985م فقد جاء بثورةٍ شعبيةٍ كهذه ولم ينازُعه أحدٌ في السيادة واكتفت حكومة د. الجزولي دفع الله بالسُّلطة التنفيذية.
* ومن جانب آخر، لو اقتطعنا أيِّ عشر سنوات من الـ(53) في حكم العسكر، سنجدها أفضل من العشر سنوات المدنية من حيث الأمن والتنمية ورسم صُورة السُّودان في الخارج!! صحيحّ إنّ السنوات العشر تحت الحكومات المدنية كانت مُتَقطِّعة ولم تكن فترةً واحدةً، لكنها لم تُقدِّم حتى مشروعاً تنموياً ذا بالٍ، نَاهيك عن مشروع – ولو نظري – لبناء الدولة الحديثة.
* هذه حقائق وليست تَعبيراً بالضرورة عن قناعتي بصلاحية العسكر لحكم السُّودان أم لا. فالعسكر الذين حكموا السُّودان منهم من تشبّث بالسُّلطة مثل تشبُّث قوى إعلان الحرية والتغيير الآن بأنّها هي الأحق بحكم السودان لا سواها. فما لم تتنازل هذه القُوى عن مطلبها غير الموضوعي وغير العادل هذا، فإنّها إمّا ساقت البلاد إلى مصائر السَّابقين من الدول التي دمّرها أبناؤها أو ربّما تَجَاوَزَ الثُّوّار من الشباب غير المُسيّسين هذه القُوى، ووجدوا طريقاً غير طريق هذه القُوى لمُخاطبة المجلس العسكري وشكّلوا معه الحكومة وفضّوا الاعتصام الذي هو المَخلب الوحيد الذي تنهش به هذه القُوى وجه القُوّات النظامية التي لولاها لما وَصَلَ الثوار آمنين إلى ما وصلوا إليه.