حِرصَ العَسكري وطَمع السَّاسة
رَدّ المجلس العسكري الانتقالي أمس في مؤتمره الصحفي بالقصر الجمهوري على الوثيقة الدستورية التي قدّمتها إليه قوى الحرية والتغيير، واتّسم رد المجلس بحصافة وروحٍ مسؤوليةٍ عاليةٍ وثقة كبيرةٍ، ووضوحٍ في الطرح وموضوعية كبيرة، وهُدُوء ومنطقٍ سليمٍ في عرض رأي المجلس في النقاط المُختلف عليها، وابتعد المجلس العسكري في ردوده عبر المؤتمر الصحفي عن التشنج والارتباك والتناقُض كما كَانَ في مؤتمر ما يُسمى بتجمُّع المهنيين الذي عُقد قبل ساعتين تقريباً من المؤتمر الصحفي للمجلس، للتشويش على موقف المجلس العسكري واستباق مؤتمره الصحفي.
واضحٌ من رد المجلس العسكري أنّ مُلاحظاته عليها وتحديده النقاط الخلافية مع وثيقة الحرية والتغيير وبعض ما جاء في مُقترحات الوساطة، أنّ هذه الوثيقة التي رفضتها وتحفّظت عليها حتى مُكوِّنات قوى الحرية والتغيير نفسها، ليست مقبولة لدى المجلس العسكري، وتحتاج إمّا إلى تعديلات جذرية عليها تقوم بها الجهة التي قدمتها، أو يتم طرح مُقترح آخر أو إعلان دستوري جديد يطرحه المجلس العسكري، أو تحدث تَطوُّرات أخرى جديدة قد تُعيد الحوار إلى مسارٍ صحيحٍ، وتتقارب فيه وجهات النظر مرةً أخرى أو تتباعد الآراء والمواقف.
المجلس العسكري، عبّر بدقة عن حقائق الأوضاع في البلاد، حاولت وثيقة الحرية والتغيير تجاوزها مثل مصادر التشريع التي هي الإسلام، ثُمّ اللغة العربية وهي لغة الدولة الرسمية، بالإضافة إلى النقاط الأخرى المُتعلِّقة بهياكل الحكم والحكم الاتحادي (الولائي) والصلاحيات والسُّلطات السيادية ومُدّة الفترة الانتقالية، وهذه المسائل التي أثارها، رد المجلس العسكري لا يُمكن لقُوى الحرية والتغيير أن تقفز فوقها وتتجاهلها، فالشعب السوداني لن ينخدع بقوى الحرية والتغيير التي تُمهِّد صراحةً إلى دولة بلا هوية ثقافية ولا دين وانتهاج العلمانية سبيلاً لتغيير الأوضاع في السُّودان، بهذا الرد المُتماسك من المجلس العسكري الانتقالي وحججه المُقنعة القوية، ليس أمام الحرية والتغيير من خيارات سوى التّوافُق مع التّعديلات المُقترحة والقبول بإشراك القوى السياسية الأخرى التي شاركت في التغيير لبلورة رؤية وطنية مُتّفق عليها بعيداً عن الشطط الذي تُحاول القوى العلمانية واليسارية فرضه عبر ابتزاز وضغط المجلس العسكري أو تسخين ساحة الاعتصام التي بدورها تُواجه شبح الانقسام.
في هذا السياق، لا يختلف اثنان في أنّ مُلاحظات المجلس العسكري جاءت أقل بكثيرٍ في مضمونها ولغتها، من مُلاحظات أبداها فقهاء دستوريون وخُبراء قانونيون مُحترمون يعيشون داخل وخارج البلاد، فَضلاً عن العُقلاء من القيادات السياسية والرموز الحزبية، التي رأت في الوثيقة من اليوم الأول لتقديمها، وجل المُلاحظات ذهبت في ما ذهب إليه المجلس العسكري، بالإضافة إلى مُلاحظات أخرى مهمة، وقد قرأتُ قبل أيّام مُلاحظات مُهمّة كتبها البروفيسور موسى الباشا الأستاذ الجامعي في المكسيك بأمريكا الوسطى، وهو بأيِّ حالٍ من الأحوال ليس مُؤيِّداً للمجلس العسكري، ولا من مُؤيِّدي النظام السابق، وله مواقف وآراء سابقة ومشهورة، بل حريصٌ كل الحرص على تحقيق أهداف التغيير الحالي، ومُلاحظات البروف الباشا في نقاط وجوانب شديدة الأهمية في البناء القانوني الدستوري أشد انتقاداً ودحضاً لوثيقة الحُرية والتّغيير من مُلاحظات المجلس العسكري.
ما أثارته هذه الوثيقة من انتقاداتٍ عامةٍ، ومُلاحظاتٍ من جهات مُختلفةٍ، يُشير بصورة لا لَبس فيها ولا غُموض إلى أنّ العقليات التي أنتجتها لا تتوفّر على الإلمام الكافي بالقانون الدستوري ومُقتضياته الموضوعية المُرتبطة بحقيقة الواقع السياسي والاجتماعي، وتريد هذه العقليات المُترعة بالطيش والنزق السِّياسي تمرير أجندات حزبية وتحقيق هيمنة فكر علماني مُتطرِّف، فما بين الجهل بالقانون والدساتير والرؤية السياسية الصائبة التي تُراعي مُكوِّنات الهوية السودانية وثوابتها، ولا يُمكن لهذا الجهل الفاضح والتّعجُّل والتهوُّر السِّياسي الذي صَاحَبَ تقديم الوثيقة أن يقود بلداً إلى بر الأمان.
من واجب المجلس العسكري ومسؤوليته تجاه البلاد وجميع مُواطنيها بمُختلف أطيافهم السياسية وقُواهم الاجتماعية، أن يستمع أكثر ولا يحصر التّحاوُر مع قوى الحرية والتغيير، لقد فَضَح رَدّ المجلس قصر النظر وما وراء أكمة الحُرية والتغيير، وكشف بُعد الوساطة أيضاً عن تفاصيل البناء الدستوري للدولة وكيفية تشكيل مُستويات الحكم فيها… كسب المجلس وخسر تَحالُف الحُرية والتّغيير.