الثورة السودانية التي قامت في ديسمبر 2018 هي ثورة تراكمية ممتدة على مدى ثلاثين عاما, ونظام الإنقاذ امتد طيلة هذه السنوات ركب فيه الكثيرون وترجل كثر في مراحل مختلفة وقام بأعمال جليلة وأخفق في كثير, ولكنه تجربة بشرية ثرة وحقبة من حقب الحكم في السودان, اجتهد القائمون عليها, قدموا الكثير وأخفقوا في مواطن أخرى, ولكن سجّل في سِجل حكم السودان.
ثم جاءت الثورة ومعها زخم كبير وقاد نهايتها شباب من ابناء السودان اغلبهم غير حزبيين, ونظم بعضهم انفسهم في لجان المقاومة, وآخرون ظلوا ثوارا دون انتماءات ينشدون تغييراً في كل مناحي الحياة وإلى الافضل مع آمال عراض واحلام كبرى ويتطلعون إلى غد مشرق تسود البلاد حياة المن والسلوى, واشترك معهم في التغيير بعض الاحزاب, ولما كانت هذه الاحزاب منظمة اختطفت الثورة بتوقيعها على ميثاق الحرية والتغيير وصارت هناك شراكة بين القوات المسلحة والحرية والتغيير بعقد أقرب إلى عقود البيوع وهو عقد بين المؤسسة العسكرية والحرية والتغيير بدون تفويض من الشعب, بل بتفويض منقوص لغياب الاطراف الفاعلة فيه من هذا العقد, وبعد توقيع هذا العقد انفرد بإدارة الشركة نفر قليل من الاحزاب واستولوا على كل رأسمال العملية التشاركية من مجلس الوزراء وولاة الولايات وحوالي ثلثي مجلس السيادة, وسيطروا على كل مفاصل الدولة في الوظيفة العامة المدنية والاقتصادية والسلك الدبلوماسي, بل لجنة التمكين ودانت لهم الدولة بكل مالها, وفي الثلاث السنوات إلا نيف التي حكموا فيها بالأقلية الحزبية هذه عاثوا في البلاد فساداً فاق الوصف, بل حوّلوا كل إمكانيات الدولة الخاصة والعامة إلى اشخاصهم واحزابهم وعضويتها, ولم يسلم من ذلك المصادر بدون اجراءات قضائية من الأموال والشركات والأصول والنقدية, وحتى المركبات استباحوا المال العام, وأبعدوا الأجهزة الرقابية من مراجع عام ومراجعة داخلية وجهاز النيابة والقضاء حتى الأمن الوطني, بل أحالوا القضاة والنيابة والأمن الوطني إلى الصالح العام وجهاز الأمن غيّروا حتى قانونه.
بعد ان حصلوا على هذا وبدون مقابل, أذاقوا البلاد والعباد الأمرين ولم يسلم من بطشهم الدين والقيم, وحاولوا حتى تغيير هوية البلاد وشكل وسلوك شعبها وأجاعوا الشعب وأفقروه, هذا حال السودان مع دعاة المدنية الزائفة قبل الخطوة التصحيحية التي قام بها الفريق أول البرهان كقائد عام للجيش, هذه الثورة التصحيحية يجب ان تتبعها خطوات تصحيحية كبيرة أهمها إرجاع القيم السودانية الأصيلة التي اضاعها هؤلاء الحكام في الثلاث سنوات التي مضت, ومراجعة القوانين التي صاغوها وخالفت العقيدة وقيم ودين وذوق وسلوك هذه الأمة, بل يحتاج الأمر إلى ضبط الشارع العام, ناهيك عن الوظيفة العامة, بل يحتاج إلى ضبط سلوك بعض الثوار والمتظاهرين وذلك بمراجعة عملية تتريس الشوارع وحرق الإطارات وتكسير اللمبات والأعمدة على الشوارع وقلع الانترلوك, لأن ذلك مال عام والسلوك التخريبي الذي اجتاح البلاد حتى إلى التعريف بالمدنية والدولة الديمقراطية ومطلوبات ومهام الفترة الانتقالية للوصول إلى الدولة المدنية بعد قيام انتخابات حرة في أجلها المحدد, ولذلك اعتقد ان تصحيح مسار الثورة ليس فقط في هياكل الحكم, ولكن المفاهيمية الثورية وتشبيك العلائق بين الدولة والشعب وبين الدولة والعالم وبين الحاكمين والمحكومين, ولذلك أعتقد أننا محتاجون إلى تصحيح شامل لتغيير قبيح أصاب الوطن في الثلاث سنوات السابقة من حكم د. حمدوك وحاضنته الرباعية ومن لف لفها من مرفودي اليسار السوداني.
إذن التصحيح الذي ننشده هو تصحيح كل مسار الثورة طيلة فترة الثلاث سنوات التي مضت ووضع خارطة وبرنامج لما تبقى من الفترة الانتقالية وفق حواكم صارمة في السلوك والأخلاق والقيم والمُثل قبل مطلوبات المعيشة مع أهميتها, كذلك ضبط العلاقة الخارجية ولتكون محققة لمصالح السودان وليس علاقات عمالة تخدم أجندة الآخرين على حساب الدولة السُّودانيّة.