كادقلي – فرح أمبدة
يتداول كبار السن في قبيلة القرعان وهي من القبائل التي تقطن بجوار مراقد المياه في الواحات الغربية جهة دارفور، ويتوزّع أفرادها بين تشاد وليبيا والنيجر، أسطورة قديمة تقول بأن “جِنية بيضاء” وهبت أحد شيوخ القبيلة جرة مغلقة وطلبت منه عدم فتحها قبل أن ينقضي فصل الخريف، وحرصاً على سلامة قومة ظلّ الشيخ وفياً لهذا الطلب لعدة أشهر، قبل أن يفاجأ بأن احد احفاده قام بكسر الجرة، وما ان حدث ذلك حتى صدر فورمان من “الجنية” بمعاقبة القبيلة وحرمانها من مغادرة الصحراء مهما كانت قسوة الحياة التي يلاقونها، وحسب الأسطورة فإن محاولات الشيخ المُستميتة لإغلاق الجرة من جديد لم تجد فتيلاً، فقد حلت اللعنة بالقبيلة وكتب عليها أن تبقى بعيداً عن الحضر “لأن طفلاً ناب عن جده في ارتكاب الخطأ”.
ربما كانت لعنة أخرى مشابهة وراء تفضيل سكان القرى النوبية التي تقطن كردفان الدنيا، بناء منازلهم في أسفح الجبال بدلاً من الأراضي المنبسطة، فالأسطورة التي يتداولها رجال القرعان منعت الجيل الحالي من كسر حاجز الخوف وتغيير بيئتهم القاسية إلى بيئة أقل يسراً مثلما يفعل أجيال النوبة الحاليون وشيوخهم .
تحدثت إلى الشيخ قارو الذي يبلغ من العمر حوالي (70) عاماً ويقطن قرية نتنقا، عن تمسكه بالبقاء في الجبال دون النظر الى ما يُعانيه الشباب في قريته قائلاً “سيواجه أبناؤنا الأهوال عندما يفكرون بمغادرة قراهم.. نحن وُلدنا في هذه الجبال ولن نغادرها إلا إلى الدار الآخرة”، يصر رجال النوبة على البقاء في قراهم المعلقة بشكل يصعب قبوله وكأنما يختارون المعاناة على الحياة الأقل صُعوبةً.
ويكتفي الشيخ قارو في حديثه معي بالقول, إن هلاكاً سيحل بهم عندما يغادرون الجبال، ويخفي ابتسامة ماكرة عندما حدثته عن تعليم احفاده وعن سهولة الحياة تحت الجبال دون أن يرد قائلاً “الذين تعلموا وبقوا ناس خرجوا من هذه القرى”, والغريب ان تيا (23 عاماً) هو الآخر لا يرغب في الابتعاد كثيراً عن قريته, لكنه يحلم بأن يجد عملاً بإحدى المنظمات المنتشرة حتى يحسن أحوال عائلته لكنه لا يحبذ فكرة الهبوط إلى الأرض !!!
وحسب ما يعتقد السكان, فإن الجبال مثلما كانت تُشكِّل حاجز حماية فيما مضى لأجدادهم, فإنها يمكن أن تقوم بالدور نفسه في هذا الزمن، نحن لا ندري ماذا يمكن أن يحدث حتى نهجر مناطقنا.. كانت هذه إفادات احدى النساء في اجابة على سؤالي.. ليس هناك ما يغرينا بالذهاب إلى المدينة, فالناس في كادقلي أيضاً يعانون وعندما كانت الحرب مشتعلة بعض من الناس جاءوا الينا لذلك لم يتعرّضوا للمخاطر.
في مناطق النوبة يكفي ان ترفع رأسك ناحية السماء لترى عشرات القرى المُعلقة، ويستبد الفضول بعقلك حتى تعرف السر وراء ذلك.. يقول قارو “ليس هناك سر.. هذه منازلنا توارثناها عن أجدادنا وسنورثها لأحفادنا.. يا بني لماذا لم تغادر انت بيتك حتى تطلب مني ذلك، لم يقتنع الشيخ الهرم عندما ذكرت له أن أحفاده يعانون يومياً من أجل الحصول على الماء والحطب وعندما يودون زيارة المدينة, ويكتفي قائلاً “لقد كنا نفعل كل ذلك فيما مضى ولم يحدث لنا شيء”.
يفسر هاشم عبد الرحمن وهو باحث ومعلم لمادة التاريخ في إحدى مدارس المنطقة.. تفضيل قبائل النوبة البقاء في القرى الجبلية بقوله، المعلوم ان هذه الجبال كانت في السابق تشكل مناطق آمنة بالنسبة لهم, لكنهم مع المدة اقترنوا بها وكيّفوا حياتهم معها وبات ارتباطهم بها مثل ارتباط الشخص الغني ببلدته الفقيرة.. هو يرغب ان يستمتع بماله في المدينة, لكن هناك شئ ما يربطه ببلدته رغم فقرها .
ويضيف في حديثه معي.. انت تعجب مما ترى, لكن لأنك قادم من بيئة مختلفة.. مثلاً في منطقة ابيي يمكن ان تقابل شيخاً من الرعاة وهو يملك ما يفوق الألف بقرة دون ان يملك منزلاً مثلاً.. ما الذي يمنع هذا الشخص من الذهاب إلى المدينة وبناء منزل فاخر وامتلاك عربة حديثة وغير ذلك.. هذا السؤال يمكن ان تسحبه على هؤلاء المعلقين في الجبال, انها حياتهم التي وُلدوا عليها ولا يمكن أن تختفي بين يوم وليلة.
لكن عبد الرحمن يلحظ ان رياحاً للتغيير قد بدأت تهب على ليل الجديد عندما يقول.. قد لا تدرك ان وقف الحرب فتح الطريق لحياة جديدة في منطقة الجبال.. فالشباب الذي كان لا يختلف كثيراً عن من هم اكبر, اتيحت له الفرصة للعمل والسفر الى المدن والحواضر وبالتالي فإن الكثيرين منهم عرف العيش في المدينة وبعضهم تعوّد عليه, لذلك من المتوقع ان يسحب هؤلاء أسرهم من الجبال بصورة تدريجية إلى المدينة وقد يأتي يوم تختفي فيه السكنى في الجبال.
أمر آخر قالته نادرة كديل وهي “موظفة بإحدى المنظمات”.. في السابق كان الناس يفضلون المكوث في قراهم, لكن البعض أجبرته سنوات الحرب على الهبوط.. هؤلاء منهم من اصبح ساكناً في طرف المدينة, ومنهم من تجمعوا في قرى قريبة من الطريق الدائري الذي يربط كادقلي بالدلنج وببقية مناطق الولاية .
تقول نادرة, الناس بدأوا يتقبلون الخدمات التي تقدم لهم لذلك اصبح لديهم القابلية للتحول.. كان الناس في قرية “بان جديد” القريبة من طريق كادقلي الدلنج لا يتعدون العشر أسر.. لكنها الآن أصبحت من القرى الكبيرة رغم ان عمرها لا يتعدى الخمس سنوات, لأن الخدمات من مياه ومشفى وسوق جذبت السكان إليها.
برغم كل الشقاء الذي يواجهه سكان القرى المعلقة في جبال النوبة, يبقى هناك أملٌ في حياة أفضل.. وحسب قول عبد الرحمن فإن الناس في منطقة الجبال دمّلوا جراحات الحرب وعادت اليهم حياتهم السابقة, وهذا برأيه سببٌ كافٍ لبقائهم في قُراهم رغم المُعاناة.
مؤخراً, سكت صوت البندقية ووقع اتفاق جزئي للسلام، وعرفت سكان المنطقة السلام، وكان ذلك سبباً ذلك لعودة الحياة إلى سكان الجبال، وعلى غير ما كان متصوراً بدأوا في تعمير قراهم التي هجروها بدلاً من البقاء في المدينة أو في تجمُّعات النزوح التي وضعوا فيها، حتى إن منظمة الهجرة الدولية التي تتولى دعم عودتهم الطوعية, اضطرت لبناء مجامع ضخمة من الزنك خارج مدينة كادقلي وزوّدتها بمضخات المياه ومواقف للشاحنات حتى تتمكّن من ترتيب أوضاعهم, قبل أن تبدأ في إرجاعهم إلى مناطقهم .