احمد موسي قريعي يكتب : الإسلام السياسي .. يوميات البارود والدم (12)
الطريقة التجانية السودانية ومبدأ السياسة الناعمة
تشكل الطريقة التجانية رقماً مهماً في خارطة العمل الاجتماعي والديني والسياسي في السودان بحكم نفوذها الكبير الذي يقوم على مبدأ “السياسة الناعمة” رغم ابتعادها المُعلن عن المعادلة واللعبة السياسية في السودان.
في واقع الأمر, الطريقة التجانية لا تختلف كثيراً عن جماعات “الإسلام السياسي”، فهي مثلهم تماماً ولكنها تسلك طريق “العنف الناعم” المتجلي في الألفاظ والأقوال، والتشابك والعراك بالأيدي أو “السلاح الأبيض”. لكن مهما جملت وزينت نفسها فهي “عنيفة” لأن العنف “ملة واحدة” لا فرق بين عنيفة وناعمة.
الحقيقة أن العلاقة بين المريدين والشيخ التجاني علاقة تنظيمية تمثل في جوهرها بُعداً سياسياً، يقوم على الاستقطاب والطاعة المطلقة للشيخ في كل ما يتصل بالغيب أو يتعلق بأوامره ونواهيه وآرائه. التي لا تتجاوز في كثير من الأحيان تلك المقولة الصوفية الشائعة التي تقول: “لا تجوز مقاومة الحكام ومغالبة السلاطين، لأن الله أقام العباد فيما أراد”.
كما أن معظم شيوخ التجانية والطرق الصوفية – بوصفهم “فقهاء” يقومون بالعديد من الأدوار والوظائف السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية في مجتمعاتهم، فهم يلعبون دور: (المرشد، والمعلم، والإمام، والمأذون، والطبيب، والوسيط المتشفع في فض النزاعات والصراعات والحروب ونصرة المستضعفين لدى الحكام والسلاطين).
بالنظر إلى علاقة التجانية بالإسلام السياسي يمكننا طرح العديد من الأسئلة، مثل هذه الأسئلة: هل هنالك ثوابت سياسية ثابتة لهذه الطريقة؟ وهل لها موقف موحد من الأنظمة الحاكمة في السودان ومن التحالفات السياسية؟ ولها رؤية سياسية محددة؟ وما هي طبيعة العلاقة بينها وبين غريمها اللدود جماعة أنصار السنة المحمدية؟
سأبدأ بالإجابة على السؤال الأخير فقط باعتباره جوهر هذا المقال، فأقول رغم العداء الظاهر والمُعلن بين التجانية وأنصار السنة في السودان, إلا أن هنالك تحالفاً سياسيا انتهازيا وقع بينهما في العام 1964م ضمن إطار “جبهة الميثاق الإسلامي” أو ما يُسمى بتحالف “الحرب المقدسة” وقبل أن نقف على طبيعة هذا التحالف وأهدافه المعلنة والمستترة, دعونا نقف أولاً عند عبارة “مقدسة” والتي تعني بوضوح تغليف السياسة بالدين وتطعيمها به، لأن التقديس حالة تناسب الدين، وهذا أمر يجعل “التجانية” تسير على ذات الدرب الذي يسير عليه التيار الإسلامي السياسي.
بالرجوع إلى ذلك التحالف الانتهازي، نجد أن هنالك جبهة تم تأسيسها عام “64” بهدف خوض الانتخابات البرلمانية لسنة 1965م، جمع هذا التحالف بين تيارات متقاطعة الرؤى والمفاهيم والأهداف، (الحركة الإسلامية السياسية، وجماعة أنصار السنة السلفية، والطريقة التجانية الصوفية) على طريقة “سمك، لبن، بيض، موز، تمر هندي”. لأن الحقيقة الوحيدة هي أن هذه الجماعات لا يمكن أن تلتقي أبداً، وسبحان الله مع ذلك تقابلت وامتزجت وصارت جسماً واحداً، استطاع أن يكسب الانتخابات ويحقق أهدافه المُستترة المتمثلة في (إقصاء اليسار السوداني، وتعديل الدستور، وطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، وتحريم وتجريم الدعوة للشيوعية)، إذن الانتهازية كانت القاسم المشترك الأكبر بين هذه الجماعات المتنافرة والمتصارعة، فهذا التحالف استخدم العامل الديني لكسب أصوات الناخبين لغاية غير شريفة هي وضع “حد” للمد البعثي والشيوعي والقومي الذي كان في حالة تصاعدية مستمرة ومتصلة.
والآن نعود إلى طبيعة العلاقة بين تجانية السودان وأنصار السنة، فنجد أن العلاقة بينهما ذات طابع عدائي اتسم في بعض تجلياته بالخشونة والعنف، فالطريقة التيجانية عند أنصار السنة (طريقة مبتدعة وباطلة، وفيها أنواع من الكفر وبالتالي لا يجوز اتباعها بل يجب على أتباعها تركها، والالتزام بطريقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم). والوهابي عند التجانية (عدو الله ولا شك كافرا يسب النبي صلى الله عليه وسلم والصحب جملة).
إذن كيف لهذه المعادلة أن تذوب في ذلك التحالف؟ لكنها عورات السياسة عندما يخالطها الدين، وعورات الدين عندما يكون الوجه الآخر للسياسة.
ويجب أن نشير هنا إلى أن الطريقة التجانية، دخلت السودان عن طريق غرب أفريقيا، على يد العالم الهوساوي “عمر جانبو”، والذي أخذ الطريقة عن الشيخ “محمد الصغير بن علي”، أحد تلاميذ الشيخ “أحمد التجاني” الأب المؤسس للطريقة التجانية في العالم الإسلامي، إذ تذكر المصادر أن الشيخ الهوساوي قد قام بنشر تعاليم الطريقة بدارفور وكردفان، وذلك عندما عاش بالفاشر بغرب السودان في ضيافة السلطان علي دينار، عقب نهاية الدولة المهدية عام 1898م، ثم ساءت علاقته بالسلطان علي دينار مما اضطره إلى الهروب إلى الأُبيض بوسط السودان في عام 1908، ومنها إلى أم درمان ثم الحجاز, حيث توفي ودُفن بمكة رغم أنف الوهابية.