الشارع السوداني بالتجربة شجاعٌ، لكنه ليس مهنياً وأحياناً يأتي إنصافه متأخراً في تعاطيه مع الشأن السياسي تحديداً، هكذا أرادوه منذ الاستقلال وحتى اليوم.. هذه الأيام كل الأطراف الفاعلة في الشأن السياسي السوداني، كل يخوف الآخر بالشارع إلا ما رحم ربي.. كثيرون يريدون الشعب أن يسقط أي نظام، لكنهم لا يريدونه أن يكون جزءاً من البديل الديمقراطي الحر.. كل السياسيين الذين ناموا على عسل ثورة ديسمبر قد خرجوا اليوم من خنادقهم وأشهروا أنيابهم، واستلوا سيوفهم وهم يحرضون الشارع سراً وعلانيةً كي يستل خناجره معهم وينتصر لهم دون أن يسألوا أنفسهم ماذا فعلوا له خلال الفترة الماضية، ولماذا لم يحرضونه على تنظيم صفوفه وتهيئة حاله استعداداً للانتخابات..؟ لكنهم ما أن استشعروا بالخطر وفقدان الكراسي، حتى خرج محمد الفكي سليمان وهو يدعو الشعب الى النزول للشوارع كي يحمي ثورته من جيشه.. أعتقد كانت هذه الدعوات التحريضية هي التي جعلت قوات الشعب المسلحة تقف انتباه، وشجّعته إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر من شركائه المدنيين سيما مجموعة اليسار وحلفائهم!!
إن مجموعة (4) طويلة تدعو الشارع إلى إفشال ما أسمته (الانقلاب) دون أن يطرف لها جفنٌ، وهي تنظر لسوء الحال والدمار الذي تعانيه البلاد ولم تخطُ خطوة موجبة تجاه قضايا الشعب ومعالجة ظروفه المعيشية.. إن ما تعيشه بلادنا وحده يبرر أي خطوة تصحيحية أياً كانت الخطوة ودرجة حساسيتها.. بلغ الحال بالشعب مرحلة جعلته يفقد الثقة في كل المنظومة السياسية الحاكمة والمعارضة ما عدا الجيش، وهو ما استشعره المكون العسكري وجعله ينحاز للمجموعة التي تنادي بتوسيع قاعدة المشاركة ووحدة الصف للحيلولة دون انهيار الوطن على رؤوس الجميع.. بالمنطق والواقع لا أحد يدعي امتلاك الشارع، ولا أحد يستطيع الرهان على معادلته، والشارع السوداني لم يفوض حزبا ولا شخصا للتحدث باسمه وتمثيله.. وحتى الآن الشارع السوداني متمردٌ على الكل إلا من وطنيته.. وحتى الآن الشباب الذين يخرجون إلى الشارع من حين لآخر هم شباب رافضون للواقع ويريدون أن يكونوا جزءاً من واقع جديد أفضل من الذي هم عليه، واقع يحقق لهم طموحاتهم وآمال وطنهم، وبالاستماع للأكثرية منهم نجدهم لا أمل لهم أن يكونوا حائطاً أمام مستقبل بلادهم وينتظرون من يخاطبهم بعقلانية وموضوعية.. إن هؤلاء الشباب الثوار يريدون واقعاً يزيح عن وطنهم شبح الأزمات، ويكبح ذعر المعاش ومخاوف الفتنة المجتمعية المحتملة.. معيبٌ جداً أن يكون المكون العسكري وحركات التمرد هدفهم الاستقرار، وأن تدور عجلة الاستثمار والاقتصاد والنخب السياسية تتناحر بعضها البعض وكل واحد منهم يخوف الآخر بالشارع، وهم يحاصرون الآخرين حتى يدينوا للبقرة المقدسة (الثورة) بالولاء، وفي الأصل هم الذين باعوا الثورة وضيّعوا أمل الشباب.. عامان ولم نجد احتفالات ولا مباريات كرة قدم ولا كرنفالات شعبية وفنية احتفالاً بمصابي الثورة، ناهيك عن علاجهم، حتى خرج المصابون بعد ما ضاقوا ذرعاً فخرجوا إلى الشارع وترسوا أمام بوابات مجلس الوزراء كي يلفتوا نظر خالد سلك وعبد الله حمدوك وحكومتهما، بأنهم ما زالوا يعانون وجروحهم لم تضمد.. خالد سلك وأعضاء حكومته بعدما فقدوا الكراسي، نزعوا البدل والكارفتات وتزيأوا بالتيشيرتات وخرجوا الى الشارع يمجدون الثورة ومجهود الشباب الثوار غير أنهم فشلوا.. إن شباب الثورة لم يعرهم اهتماماً، ولم يمهدوا لهم المنصات للحديث كما في السابق، فقد اكتفى خالد سلك ووجدي صالح بصناعة مشهد إعلامي والتصوير أمام المتظاهرين بعد ما حال الشباب بينهم ومنصات الحديث!! صمتوا طيلة الفترة الماضية ولم يتحدثوا عن دعم الثورة وحث نجوم المجتمع وقواه الحية على ذلك.. عامان من الدمار والخراب والفشل في كل شئ، عاد بعدها ياسر عرمان ورفقاء الصمت إلى هوايتهم ليعيدوا الشباب الى مشهد استقبال مزيد من الضحايا وهم يتغنون بأهازيج الثورة المجيدة والأكتوبريات.. عادوا ليحدثون الشباب بمخاطر الثورة ومُؤامرات (الفلول) وخيانة العساكر.. لم يحدثوا الشارع بأمانة وصدق أن الثورة قد انقسمت على نفسها بسبب الكراسي وحب السلطة، لكنهم طفقوا يحدثونه عن ضحايا الثورة والقلق من شراكة العسكر.. لم تثق مجموعة (4) طويلة في الشارع والشعب بقدر ما كانت ثقتهم كبيرة في المجتمع الدولي والسفارات باعتبارهم هيئة دفاعهم الأولى كما قال الناطق الرسمي لـ(4) طويلة جعفر حسن بأنهم سوف يطوفون العالم الغربي سفارة.. سفارة ويحدثونهم عن مآل شراكتهم مع العسكر كخطوات تخويفية ليس إلا.. فقدوا ثقة الشعب فيهم ولم نسمع بأنهم أشركوا السودانيين الشرفاء في أي خطوة واليوم ينادون بفوضى الشارع وبالتخريب.. وقبل أيام عساهم ينددون بالنيقرز .. حقاً لا يُريدون للشارع أن يخرج في كرنفال فرح بالديمقراطية وبفوز إرادته.. حقاً ذوّبوا كل معاني الشارع وسط الهراء السياسي البائس.. وبلا خجل يهمسون اليوم في أذن الشعب ويطالبونه بإضراب عام وعصيان مدني دون أن يكترثوا إلى ائتلاف القوات المسلحة مع الشعب والتيارات السياسية الأخرى وحركات التمرد ومنظمات المجتمع المدني السوداني، جميعهم اعترضوا على مُخطّطات (4) طويلة.. فعلاً إن زهو الكراسي يعمل مآسٍ، وإلا لما لجأ بعضهم مثل الرشيد سعيد للاختباء داخل سفارة فرنسا باعتبارها أرضاً غير سودانية وفقاً للأعراف الدبلوماسية، وهو يُدير معركة هوائية مع الجيش السوداني باسم وزارة الإعلام المعزولة.. طول ما دم الشباب السوداني رخيص عند ياسر عرمان والرشيد سعيد، فهما لا يتورّعان في استخدام كل الوسائل المحرمة لتحقيق دوافعهما السياسية دون النظر الى حرمة الأنشطة ومصادر التمويل.. وطالما هناك إيماءة بالموافقة من الدول التي يحملون جوازاتها يسقط أي رئيس مهما كان وطنياً، وهما كانت دقة اللحظة التي يمر بها الوطن ورائحة الدم التي تفوح.. إن الباب الذي تدخل وتخرج به مجموعة (4) طويلة وآخرون، لا يملكون مفتاحه ولا يدركون إلى أين يؤدي هذا الباب، ولا يعلمون ماذا يعود منه لوطنهم من فوائد.. فالأوفق للجيش وحلفائه من الشعب والشارع والسياسيين وكل الشرفاء وحتى لا يقع الفأس في الرأس، عليهم بالمسير قدماً فيما ينفع البلد والشعب والناس تنسى حكاية.. (الشارع لن يقبل).. هذه العبارة باتت حجة واهية يصعب قياسها في ظل انقسام الشارع وتوهان الشارع نفسه أمام تعدُّد الشعارات والنداءات.