في الصف الرابع الابتدائي، بمدرسة “ب” النموذجية، بمليط، طلب منا أستاذ اللغة العربية، واسمه آدم الدومة، عليه رحمة الله، بعد عودتنا من عطلة نصف العام، كتابة موضوع إنشائي عن الزيارات التي قمنا بها إبان فترة العطلة، وجرت العادة أن يحملنا أهلنا إلى البادية لنقضي بها كل العطلات الطويلة، لأنها تقوي أبداننا، وتصلب عودنا، وتحسن من لغتنا التي قد تتعرج بخلط البشر في المدينة، أذكر أن “باديتنا” كانت في ناحية “الصعيد” على مشارف بلد تسمى قرينجي، أعتقد أنها في نطاق جنوب دارفور الحالية إلى جهة الشمال الشرقي، وكانت مهمتي أنا وابن عمي “أمبدة التوم أمبدة” في ثاني يوم لوصولنا البادية مراقبة “الضراء” وهو مضرب تقضي فيه البادية يوما أو يومين قبل أن تبدأ الترحال مجدداً، مراقبته من أن تجتاحه الأغنام والأبقار التي تملأ الأرض وقتذاك، أما المهمة الثانية، فهي مراقبة ناقتي “أم شابط” حتى تضع حوارها “مولودها” بسلام، فالإبل البكار تحتاج إلى من يراقبها وأحياناً يُساعدها على الولادة، حتى لا تتحرك واقفة ساعة خروج مولودها، لكي لا يقع لتنكسر رقبته ويموت.. وأم شابط ناقة عزيزة على قلبي, لأن خالي الذي لم أره منذ أن كنت يافعاً، أهداني إياها، وأنا “مجرتق” في ثوب “الطهور” كما يُسمى في تلك الأنحاء.. لقد وضعت أم شابط “سنتها” مولودة أنثى حملت اسم “بت أم شابط”، المهم، أدينا المهمة على أكمل وجه، لم تقترب الأبقار والأغنام من “ضرانا”.. وكنت أنا وابن عمي محل إشادة الجميع لأنهم لم يتوقّعوا أن يقوم “أولاد مدارس” بكل ذلك دون خطل….
لعقود ظلت الذاكرة متعلقة، بساعة خروج “بت أم شابط” للحياة.. الآن يمكنني أن أمسك بريشة لأرسم وجهها وهي تزحف خارجة ببطء لتعانق الدنيا، ولا أدري لماذا اعتقدت بأنها تشبه “الجنية”.. ولماذا اخترت “ام شابط الجنية” ليكون عنواناً لقصة الإنشاء التي طلبها الأستاذ الدومة…
ثاني يوم، وفي حصة اللغة العربية، كان الجميع ينتظر، كل تلميذ متلهف، لمعرفة ماذا يقول الأستاذ عن موضوعه.. بلهجته الحادة وهو ينظر تحت نظارته “قعر الكباية” كما نسميها، جفلت، حين طلب مني التقدم نحوه.. وقفت متسمراً أمامه، وهو يقلب الأوراق دون أن يرفع رأسه، فرك يديه، وعضّ على شفتيه، قبل أن يقوم واقفاً ليقول للتلاميذ وبلهجة أكثر حدة “قيام”، نهض الجميع بسرعة، بدأت أطرافي ترتجف، خرج عقلي ليبحث عن ما فعلته، ومن شكاني للمدرسة، يا رب ماذا فعلت، راجعت الساعات منذ نهاية اليوم الدراسي أمس، وقبل أن اعثر على سبب يبرر “عقابي المُنتظر” فإذا به يطلب من زملائي التصفيق لي وبحرارة ولأول مرة نراه يصفق وبقوة.. ليقول… شاطر يا فرح تنفع صحفي.. لقد بذرها في عقلي الباطني، دون أن أعرف ماذا تعني.. وكان السبب “الجِنِيّة بت أم شابط”.. خطً لي طريق الصحافة، وحتى الآن لا أدري هل قذف بها القدر بين شفتيه ليقولها لي.. أم أنها قدري قالها أم لم يقلها.. المهم إنه معلمي وهو مَن اختار لي طريقي.. إنها مهنة الأنبياء.. كل الطرق التي مشيناها اختارها لنا معلمونا، غبت لبرهة، وضللت طريقها مجبراً.. وها أنذا أعود عبر عمود “قبل أن” وأبر بعهدي القديم مع مَن يقرأ لي حرفاً، لن أحيد عن الحق مهما كانت الضغوط، ولن أبيع قلمي مهما علا ثمنه، ولن أركل المهنة التي علمنيها أساتذة عظماء قط…