من العمق العاشر
آمال عباس
وقفات مهمة.. الغبار في البحر
هناك حكاية تقول بأن تصادف قط وفأر جمعتهما رحلة فوق ظهر “مركب” في البحر, وطوال الرحلة ظل القط يرمق الفأر “بطرف عينه”، إلا أنّ بقية مَن كانوا في المركب ينظرون اليه نظرات يعرف معناها.. ويصارع رغبته في التهام الفأر, وفي الآخر ابتدر القط الفأر متهماً إياه بأنه يثير الغبار في وجهه, ولما أبدى الفأر, دهشة في الغبار الذي يُثار في نصف البحر وجدها القط فرصة وقال له هو غير فصاحتكم دي البخلينا ناكلكم شنو؟؟
مع حكاية القط والفأر هذه, نجد الملكة زنوبيا التي حكمت تدمر, والملكة بلقيس التي ملكت سبأ وحتشبسوت وكيلوباترا في مصر وعائشة أم المؤمنين في موقعة الجمل, وأنديرا غاندي في الهند وبندرنايكا في سيرلانكا وفالنتينا في روسيا وروزا وهدى شعراوي وجميلة بوحريد وهنا.. هنا في السودان الملكة كيرا في دارفور وبت رجب ملكة قلي وسنار وآمنة ملكة كجبي وشغبة الرفمانية التي قادت معركة استمرت عدة سنوات.. رابحة الكنانية وفاطمة أخت أولاد جابر ومهيرة بت عبود وبت حمد الجعلية والعازة زوجة علي عبد اللطيف ومجموعة اللائي قامت على أكتافهن الحركة النسائية في السودان.. وقيام ثورة أكتوبر, ودخول البرلمان وقيام ثورة مايو, ونفيسة في المكتب السياسي وفاطمة وغيرها من في قمة المواقع السياسية والتنفيذية, وقانون الحكم الشعبي المحلي الذي ينص قانوناً بأن يجب أن يكون ربع الأعضاء فيه من النساء, ومع ذلك كله والذي قلت إنه على سبيل المثال.. استمعت لقصة مثيرة وغريبة, ووجه الغرابة فيها ليست في أنها تكون.. ولكن بالطريقة التي كانت بها.. وذكّرتني بحكاية صاحبنا الفأر.. المهم الحكاية الثانية.. أو حكاية سعدية الصلحي مع مجلس شعبي العباسية الذي ظلت تتولى أعباء السكرتارية فيه منذ قيامه.. قبل مدة قاربت السنتين وكأي عمل جديد أو غيره توجد النواقص والسلبيات.. والحكمة دائماً تكون في الطريقة التي تعالج بها مثل هذه الأمور.
تقول سعدية بعد معركة طويلة استنفذت منها الكثير من الجهد وصرفت خلالها العديد من الكلمات والمحاولات التي أرادت أن تفهم بها الأعضاء أن حكاية مرة راجل انتهت في مفهوم العمل العام.. وإنما الكل يقاس بما يقوم وبقدر التزامه جانب الجماهير وحقها في العيش الكريم.. وراحة البال وكان هذا كله بعد أن تسلمت الأخت سعدية الصلحي خطاباً من رئيس مجلس شعبي العباسية يخطرها فيه بإعفائها من مهام السكرتارية.
خلاصة القول، إنّ سعدية في اجتماع المواجهة الذي عقد في المجلس قد عرفت السبب.. ولكن في هذه المرة على غير العادة فعندما يعرف السبب يقال بطل العجب.. ولكن هذه المرة قد زاد العجب.
وفي نقاشي مع سعدية قلت لها إنها هي قضية المرأة.. قضية المفاهيم.. وقضية الإنسان الذي يصعب تغييره ويحتاج للكثير من الجهد ولذلك تلجأ الثورات لوضع القوانين أولاً وتواصل جهدها لإحداث التغيير الذي يلزم بهذه القوانين.. فرئيس المجلس وبعد أن أعيته الحيل والمبررات الواضحة, تحدثت جوانيته والحديث الذي قاله يعتبره عادياً بل وفضيلة, عندما قال “الحكاية وما فيها نحن رجال وما دايرين سكرتيرتنا تبقى مرة”.. ومن هُنا تبدأ وقفتنا هذه, الحقيقة أن قضية المرأة ليست قضية اضطهاد الرجل للمرأة فهي تبدو كذلك, ولكنها قضية لها جذورها.. الى ما قبل التاريخ, وهي العلاقات الاقتصادية.. وإن كان اليوم ليس اضطهاداً اقتصادياً كاملاً.. ولكنه باختصار تجميع وتلخيص لكافة الاضطهادات التي عانى منها الإنسان على مر العصور والدهور.
والكشف عن جذور هذا الاضطهاد هو في المقام الأول واجب الاشتراكيين الذين عليهم وباستمرار القيام به على الوجه الأكمل. فالإنسان في بحثه الأزلي عن الحرية والحياة الكريمة تخبّط كثيراً.. ووجد الكثير من الحلول الجزئية في الحركات الإصلاحية ولكنه سرعان ما يواصل البحث من جديد عن الحل الأمثل.. وأخيراً وجد الإنسان ضالته وبعد مسيرة شاقّة وطويلة وجدها في الاشتراكية.
جميع البلدان التي اتخذت الاشتراكية منهاجاً للحكم.. أصدرت مع أول قرارات التأميم قوانين جديدة للأحوال الشخصية.. ومع قوة العادات فقد كان على الطليعة الاشتراكية الداعية في تلك البلدان أن تُناضل في سبيل تطبيق تلك القوانين الثورية الجزئية.. وأن تقنع بقية الجماهير بتقبلها.. وهذه قاعدة يجب أن تتبعها الثورات في مرحلة التغيير.. إصدار القانون أولاً ثم النضال في سبيل تطبيقه.. دونما انهزام أمام ضغط الرأي العام الذي ما زال قطاع كبير فيه خاضعاً للتقاليد الرجعية المتوارثة ونظرة الحريم للمرأة.
وبصراحة أقول، إنّ موضوع سعدية هذا يؤكد ثورية ما نص عليه قانون الحكم الشعبي المحلي.. وبهذا أردت أن أقول إن إصدار قانون جديد للأحوال الشخصية يبدو من أكثر من زاوية مكملاً وقواماً للكثير من الإجراءات التي اتخذتها ثورة مايو تجاه قضايا المرأة.
وهذا لا يعني أنني أنادي بمبدأ تجاهل المراحل في مجال العلاقات الاجتماعية.. وبالطبع هذا ليس واردا في سلوك الثوري.. ولا مستقيماً أن نطالب المناضل بأن ينعزل عن الجماهير.. إذ كانت هذه الحالة علينا أن نهيئ الجماهير لا أن نستسلم لنزعتها هذه.. والتي من شأنها أن تخلق التناقض الصارخ المُؤلم بين التنظيمات التحتية والتنظيمات الفوقية.. بين الشعارات الاشتراكية والعمل على تحويلها إلى واقع.. وبين العلاقات والتقاليد القبلية.. والإقطاعية والعشائرية..
هذه مسألة من المسائل التي تستوجب علينا الوقوف عندها طويلاً وإن كانت وقفتنا هذه قصيرة.. والموضوع مهماً.. ما رأي الآخرين؟
- من التراث
في كتاب “تاريخ الخرطوم” للدكتور محمد إبراهيم أبو سليم، ما يأتي: قدوم المحس وأوليائهم:
وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي, وفد إلى إقليم الخرطوم جماعات من المحس واستوطنوا في الخوجلاب.. والحلفايا وجزيرة توتي.. وكانت توتي أهم مكان تجمّعوا فيه.. والمحس ينتمون إلى القبائل التي تسكن إقليم المحس جنوبي مركز حلفا وهم يؤكدون دائماً أنهم من سلالة قبيلة الخزرج العربية.. وهناك من الدلائل ما يُوحي بأنهم على صواب وبفضل المكانة العظيمة التي خلفها لهم علماؤهم وسط عربان الإقليم والخلاوي التي أنشأوها طاب لهم المقام وتملّكوا الأراضي وصار لهم نفوذ عظيم, وقد توافق مجيئهم مع قيام السلطنة السنارية أولى الحكومات الإسلامية في السودان.. وبانتقال عاصمة الفونج إلى سنار وعاصمة العبدلاب إلى قرِّي خلا الجو للمحس.. وفقهائهم الذين سكنوا حول النيل وظلوا يتكاثرون ويتوسّعون فانتقل بعضهم إلى الخرطوم.. وبعضهم إلى أم درمان.. أما العربان فقد ظلوا في باديتهم وحضرهم يوقرون أولياء المحس ويقدمون لهم الهدايا وينشدون عندهم البركة وقد صار فقراء المحس رسل حضارة وذاع صيتهم في السودان.
مربع شعر:
عبد الله أخوي شوف السيسبان مانوس
وفوق ضلو الرهين راتعات معيز أم روس
العينو فيها حمرة وايدو فيها فلوس
ان ختى ها الملم ما اظنو يلقى عروس
المربع قاله الحاردلو عندما رأى مجموعة من الحِسَان في مأتم أحد كبار القوم.. وقد جرت العادة عندهم أن تبقى النساء في الشارع وتحت أشجار “السيسبان” يبكين المتوفي إلى أن يرجع “العنقريب” من المقابر وبالرغم من المُناسبة الحزينة إلا أن شاعرنا رأى ما قاله في المربع أعلاه..!!
مقطع شعر:
من ديوان نزار قباني (أشعار خارجة عن القانون) ومن قصيدته (خربشات طفولية) إليكم هذا المقطع..
خطيئتي الكبيرة الكبيرة
إني، يا بحرية العينين، يا أميرة
أحب كالأطفال
وأكتب الشعر على طريقة الأطفال
فأشهر العُشّاق يا حبيبتي
كانوا من الأطفال
وأجمل الأشعار، يا حبيبتي
ألفها الأطفال..
خطيئتي الأولى وليست أبداً خطيئتي الأخيرة
إني أعيش دائماً بحالة انبهار
وإني مهيأ للعشق يا حبيبتي
على امتداد الليل والنهار..
وإن كل امرأة أحبها..
تكسرني عشرين ألف قطعة
تجعلني مدينة مفتوحة..
تتركني وراءها غبار
خطيئتي..
إني أرى العالم يا صديقتي
بمنطق الصغار
ودَهشة الصغار..
* مجلة السودان الجديد 7 أبريل 1973م