*يَهل علينا رمضان هذا العام، وبلادنا قدّمت أثماناً عزيزةً وغاليةً في سبيل انعتاقها واستعادة كَرامتها ونيلها حُريتها، بل لَعَلّ الشعارات التي رفعت الثورة راياتها، حرية، سلام وعدالة، هي من كريم الشعارات التي دَعَت إليها الأديان السماوية، وتواضعت عليها البشرية.
*فالحرية ما ينبغي أن تكون هبة ولا مِنّة، وإنّما أصلٌ مركوزٌ، ولأجل ذلك فإنّ الحُرية كانت دائماً يبلغها بالغُوها بدماءٍ ترويها وبشهادة تجليها، وصدق الشاعر حين قال:
وما نيل المطالب بالتّمنِّي ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا
والحُرية مهرها غَالٍ، وفي طلبها تسترخص مُهجٌ وأرواحٌ، ومن ثمّ فإنّ الأرواح التي صَعَدَت إلى بارئها، إنّما كَانت تُعبِّد الطريق لأجل أن يُكرم الإنسان، وأن تُصان حُقُوقه وألا تُهدر حُريته، وفي هذا أعلى المُحتجون مبدأ أرسى قواعده عمر الفاروق حين قال: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
*والسلام اسمٌ من أسماء الله الحسنى، قيمته تتعزّز بنبذ الحرب وبغضها، وإظهار بشاعتها وشناعتها، السلام هو الذي يَحفظ على الأمة نسلها قبل حَرثها، ثُمّ هو يحفظ عليها مواردها، ثُمّ هو يرسي رُوح المَحَبّة بين أهل السودان أجمعين، السلام ليس مفردة نلهج بها وليس شعارات نُردِّدها، فقد شهدت بلادنا حروباً قَضَت على أخضرنا ويابسنا، وكانت الأسباب دائماً ظُلماً وقع على المُهمّشين وتنمية لم تُراع التوازن بين أبناء الوطن أجمعين، وقسمة للسُّلطة لم يَرَ فيها صورتهم الآخرون، ثم ثروة لم تفتت لتفئ على كل المُواطنين، عَلاوةً على ذلك ربما كان أُس المشكلة وأساسها وجذرها ثقافياً، حيث تشكو مجموعات مُقدّرة، أنّ لوحة الوطن لا تستوعب ثقافتها، وأنّ اعلام الوطن لا يتّسع لإبراز تُراثها، وربما قاد ذلك لاشتجارات في الهوية ما زلنا نُعاني ويلاتها وآثارها.
*ثُمّ أنّ الشعار الثالث الذي رفعته الثورة هو شعار العَدل، وهو كَذلك من أسماء الله الحسنى، ثُمّ أنّ العَدل هو أسَاس الحُكم، وأنّ دولة الظلم سَاعة وأنّ دولة العدل إلى قيام الساعة، وأنّ الله ينصر الدولة العَادلة وإن كَانت كَافرة، وتحيق الهزيمة بالدولة الظّالمة وإن كَانت مُسلمة، هذا الشعار يُوجب علينا أن نرفع كل ظلمٍ حَاقَ بأحدٍ منا، وأن نكره الظلم ونستبشعه بعد ما رأينا من آثارٍ وبيلةٍ حَاقَت بشعبنا، العدل يوُجب المُساواة أمام القانون، ومن ثَمّ سيادته وسيادة دولته وسيادة حكمه، العدل يُوجب علينا أن نزن بالقسطاس المُستقيم، وألا يجرمنا شنآن قوم على ألا نعدل، بل علينا أن نعدل لأنّ ذلك أقرب للتقوى.
*ثُمّ أنّ الثورة خيار الشعب، هذا مِمّا قوى من عزم ثُوّارنا، ومِمّا جعل الانتفاضة واجباً، تأديته تقع علينا، ثُمّ أنّ هكذا شعار، يحيي الإيمان فينا وينزع الذل عنا، ولا يديم المسكنة علينا، هو يرد على أولئك الذين أدمنوا الاستكانة لظُلمٍ يقع عليهم، ولبطشٍ يلحق بهم، ويظنُّون أنّ ذلك قدرٌ مقدورٌ عليهم، هُم ينسون أنّ هذا الدين جاء ليُحرِّر الإنسان من ربقة العبودية وذُلها، ومن الهوى المُتّبع والشُّح المُطاع.
وهل الدين إلا ثورة على الظالمين؟.