سراج الدين مصطفى يكتب: نقر الأصابع..
سيمفوني السودان (sudan symphony)
هنالك حلم كبير ظل معشعشاً ومزمناً في مخيلة كل أهل الموسيقى وهو تكوين أوركسترا كبيرة تشابه الأوركسترات المُوسيقية الموجودة من حولنا.. ولعلّ ذلك الحلم ظلّ عصياً وصعباً وتكاد تنعدم فرصة وجوده على أرض الواقع.. وفي ظل الواقع السياسي والاجتماعي الراهن تتفاقم الرغبة ويعلو صوت بضرورة أن تكون هنالك أوركسترا في ظل هذا الكم الهائل من الإسفاف من حولنا، إلا أن هناك محاولات جدية لتقديم شيء مختلف، لكن تلك المحاولات لا تأخذ حقها من الجهات المسؤولة وربما يكون ذلك مقصوداً، وفي كل الأحوال لا شك أن العمل الحقيقي سيفرض وجوده مهما كانت الظروف واشتدّت التحديات.
نقول ذلك ونعي تماماً لا يمكن للثقافة أن تكون مُحايدة، فمن واجب المثقف والفنان أن ينضم إلى هذه المواجهة, فإن استمرار النشاطات والفعاليات الموسيقية الملتزمة هو حالة إيجابية على الطريق الصحيح في مجال تعزيز ثقافتنا والحفاظ على تراثنا من الضياع والتشتت. المُوسيقى السودانية تتمتّع بهوية واضحة ومميزة ضمن موسيقات الشعوب, لكنها بقيت على حالتها البسيطة الفلكلورية والتراثية (الخام) حتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين, حيث بدأ بعض المفكرين الموسيقيين السودانيين أمثال إبراهيم الكاشف ولاحقاً محمد الأمين ومحمد وردي الذين وضعوا حجر الأساس لهذا النهج الجديد فاتحين الدرب للعديد من الموسيقيين الشباب المحدثين والملمين بالثقافة السودانية, وذلك مهَّد لظهور تباشير المدرسة السودانية في الموسيقى العربية, والتي مازالت تحتاج إلى الكثير من العمل والبحث والدِّراسات والجهد لاستخلاص ما يلزم من تلك التجارب وطرح الحلول الجديدة للمشاكل العالقة لتثبيت هذه التجربة في التراث الموسيقي العالمي.. كانت تلك التطورات التي أحدثها ذلك الجيل لأنهم مُشبّعون بجماليات الموسيقى السودانية من جهة, وبعلوم الموسيقى العربية من جهة أخرى, بالعمل على فك الجمود الطويل لهذا التراث الغني مُستفيدين من التجربة الواسعة للمدارس القومية العالمية.
هنالك العديد من المُبدعين لهم اهتمام كبير بموضوع تكوين (سيمفوني السودان) ومنهم الموسيقار الجميل أسامة بيكلو.. وهو يعد من الناشطين في مجال التطوير الموسيقي وله أفكار عديدة وهي في مجملها جديدة تحتاج لمن يرعاها ويقف عندها.. وهو ظل يحلم بتكوين تلك الأوركسترا التي في إمكانها أن تحدث الكثير في مجال الموسيقى وكيفية قدرتها على معالجة العديد من الإشكالات المجتمعية والسياسية.
ذات مرة قال لي “لا نجد كياناً كبيراً وجامعاً بحجم أوركسترا لها مقدرة أن تعبر عن قدراتنا الموسيقية المُتنوِّعة.. لذلك اقترحنا أن يتم انتخاب عدد من الموسيقيين من جُملة المراكز التي كانت تنافس في مهرجان ميلاد الأغنيات.. فهي أفرزت موسيقيين على مستوى عال من المهارة والجودة”.. ورغم أن المهرجان لم يقم حتى الآن ولكني تابعت باهتمام أداء بعض الشباب ورشحتهم منذ زمن طويل.
وقال “موضوع تكوين الأوركسترا هو مبادرة شخصية مني.. لأننا تعلّمنا بمرور الزمن أن الكيانات الصغيرة هي عرضة للانهيار والذوبان والتلاشي السريع من الحياة لأنها تفتقد لأبسط مقومات البقاء والاستمرارية في عطاء متصل وغير منقطع.. وذلك الانهيار أكثر ما يتضح في كل ما يخص الشأن الموسيقي والغنائي”.
أتمنى أن يلتقط وزير الثقافة الاتحادية الأستاذ الطيب بدوي فكرة أسامة بيكلو حول أوركسترا السودان حتى تصبح واقعاً معاشاً وحتى تكون عبارة عن سفرية شعبية تقدم للعالم موسيقى السودان.. أقول ذلك لأننا ظللنا نعاني من قضية التنفيذ الموسيقي والذي يبدو أنه المعوق الأول في وصول أغنيتنا للعالم.. وربما تلك الفكرة تفتح لها جغرافيا جديدة.