الحقيقة لا تكذب ولا تموت ولها سبعة أرواح، عبارة ظللت أحفظها منذ أن سمعتها أول مرة وأنا صغير، يسترجعها عقلي كلما حان لها حائِن، بالأمس كنت وسط الكتل البشرية الهائلة، وسط الأطفال اليفّع، والصبيان والشابات والشباب، وكبار السن، من أطراف أم درمان الشمالية وحتى مدخل كوبري النيل الأزرق، عند مبنى البرلمان، كانت الكتل البشرية المتلاصقة تزحف زحفاً جهة الجنوب، وقد قطعت كل تلك المسافة الطويلة دون أن تشعر بالإعياء والتعب، كنت وسطهم أراقب وأسمع وأتحدث، من الحادية عشرة صباحاً وحتى السابعة مساءً، رأيت الإصرار والعزيمة والشجاعة المُدهشة، عندما أطلقت علينا قوات الشرطة المرابطة أمام البرلمان الغاز المُسيل للدموع، ووقفت على المناصرة التي يقوم بها الشباب عندما يقع أي شخص جراء المدافعة أو يُصاب بالإغماء من تنشق الغاز، ما أروع شباب بلادي، والله هُم يستحقون وضعاً أفضل مما نحن فيه.
قبيل المغرب بقليل هدّ التعب حيلي، وأكلت “مصاريني بعضها بعضاً”، قرّرت العودة الى منزلي شمال أم درمان، ولكن هيهات أن أجد ما يقلّني إلى هناك، قلت لنفسي فلنذهب إلى منزل أختي في الصالحة، وقد فعلت بعد معاناة ومشقة…. هناك وحتى الواحدة بعد منتصف الليل كنت أتجوّل بين القنوات الفضائية العالمية والمحلية، رأيت مثل موكبي مواكب أخرى في كل مدن السودان تقريباً، عندها تثبّت يقيني بأن الشعب السوداني قد أعاد تحديد هدفه، وسجّل كلمته بوضوح، وأعطى القادة السياسيين فرصة أخرى قد لا يكررها.
الحناجر الهادرة في موكبنا لا تنطق إلا بكلمة واحدة وكل الشعارات المرفوعة تدور حولها (مدنية، الحكم المدني، دولة مدنية) الملايين التي خرجت الخميس، لم تخرج لتؤيد قوى إعلان الحرية والتغيير صاحبة الدعوة للمسيرة، ولم تكن ضد الشراكة مع الجيش، خرجت لتقول للعالم إن الشعب السوداني لا يقبل أن يحكم إلا بحكومة مدنية، كانت هذه الرسالة واضحة ومَن يظن غيرها هو في وادٍ آخر.
إذن على القوى السياسية التي تتسيّد الساحة، وكل الأطراف، أن يعوا مضمون الرسالة ويعرفوا الحقيقة التي لا تكذب ولا تموت ولها سبعة أرواح، اتهامهم للعسكريين بأنهم يبحثون عن صيغة لتستمر سيطرتهم على البلد، اذا ما صحّ، فإن الشعب سيجهضه ولن يفوت على الكتل البشرية التي خرجت الخميس، أما الشق العسكري، فالدرس أمامك واضح وجلي.. الحشود التي خرجت هي التي أسقطت “عمر البشير ورهطه وحزبه” وهي نفسها لا تتوانى في إسقاط من يقتفي أثره، مهما كانت المبررات، والثمن الذي دُفع في سبيل ذلك، يمكن أن يُدفع مرات ومرات.
طيِّب ما هو المَخرج؟.. ان يضع الجميع “الكورة في الواطة” ويستمعون للملايين التي هدرت بالأمس القريب، وبماذا نادت ولمَن وجّهت رسالتها، استمعوا إليهم لا إلى أنفسكم، وأنفضوا الغبار على الوثيقة الدستورية التي تحكم الشراكة وتحدد أدوار وآجال كل طرف، المكون العسكري عليه أن يتأكد بأن الأوزان السياسية لا تُصنع وإنما تصنع نفسها، عبر طريق طويل وعر وشاق، وإن المُساسكة لا تجدي فتيلاً، وقد رفعكم الشعب مكاناً علياً ومن قبل هتف باسمكم، وقدر دوركم، بل وتمسّك بالشراكة معكم حتى نهاية الفترة الانتقالية، أما الشق المدني فمن الأفضل له ألا يفقع عينه بنفسه، فقد لبنت وحان وقت خطافها، عاد السودان إلى حضن المجتمع الدولي، رُفعت العقوبات، فُتحت الأبواب أمام المانحين، تدفّقت ولا تزال مليارات الدولارات إلى البلد، الحرب وقد توقّفت، مع بداية العام المقبل سيبدأ الصرف على التنمية المستدامة، لا تجعلوا الشعب ينفض يده عنكم، السودان بعد ثلاثين عاماً من التدمير الممنهج في كل شئ، في كل مجال، يحتاج إلى الهدوء وليس الضجيج، يحتاج إلى السياسي العاقل وليس الناشط الهائج الذي يطلق الكلمة لا يلقي لها بالًا، يحتاج إلى مشروع وطني لإعماره لا تملكونه وحدكم، مهما ادّعيتم.
أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فعل الجميع أن ينتبهوا، الأمور بعد مواكب 21 أكتوبر لن تكون مثل ما قبله، لأن الشعب قال رسالته وعاد أدراجه ينتظر ماذا أنتم فاعلون، ولن يقف كثيراً أمام تخوفاتكم التي ملأتم بها الدنيا من الانقلابات العسكرية والعودة إلى المربع الجهنمي الذي أقعد البلاد وجعلها في ذيل رفيقاتها، فالذي رأيته بالأمس، سيجهض أي رهان ويجعله صفراً، أمام أي عسكري مُغامر مهما أُوتي من قوة ومن دعم.
حالة الوعي التي رأيتها وسمعتها، تجعلني مُطمئناً من التخوفات التي يطلقها البعض بأن تتحوّل البلاد إلى فوضى مثلما ما حدث في ليبيا وغيرها، مجرد تخوُّفات.. إذن أملوها بركة وأجلسوا بعضكم إلى بعض، وضعوا الوطن في حدقات العيون، واعرفوا مواقعكم من الشارع، وماذا يريد، ولا ترفعوا شعاراته وترددوها، وتتغنوا بها، وتعملوا ضدها، فالشعب وحده من يجعلك بطلاً وقد يرمي بك إلى المزابل.
والله من وراء القصد,,,