“أنا ضِدُّ أسلاف الرَّماد فرُبَّما وصَلوا بغَفلتِهم لحِكمَة غَفلة.. يَمضي الرَّمادُ إلى الرَّمادِ ودائماً قمرٌ يُضيءُ ونَحن بِضعُ أَهِلَّة” .. الشاعر أحمد بخيت ..!
المسيرات الشعبية والمصائر السياسية، في معظم أرجاء العالم، تمضي قدماً نحو المزيد والمزيد من المكاسب الديمقراطية. العالم كله يتجه اليوم نحو شعبنة المناهج السياسية، وأنسنة الانتماءات العرقية، وعقلنة العاطفة الطائفية، وتأطير الحدة المذهبية. فالانتماء لجلال المفاهيم وشفافية المناهج – لا عراقة الألقاب وقداسة الأشخاص – أصبح مآلاً وواقعاً جديداً تمخض عن أحوال وأهوال خاضتها معظم أحزاب الدنيا، حتى تلك التي لا تزال تتعثر أمام نتوءات وانبعاجات الخارطة السياسية، بعد مقالب وانقلابات الربيع العربي ..!
لكن رموز القوى السياسية وقادة المجلس العسكري – على حد سواء – في سودان ما بعد الثورة لا يزالون يرفدون الخطوط العريضة لصحف الخرطوم بأحاديث هي أبعد ما تكون عن العقلية التداولية، وهي أقرب ما تكون إلى الأشواق الديمقراطية. وهي كما ترى لا تعدو أن تكون فضفضة سياسية في مواجهة تصريح استهلاكي، فضلاً عن الخلافات والانشقاقات بين القوى السياسية من جهة، والاتهامات المتبادلة بين تلك القوى والمجلس العسكري من جهة أخرى ..!
والسؤال القائم هنا: متى ينعم “رجل الحزب” بالديمقراطية، قبل أن يُنعم حزبه بها على “رجل الشارع” ..؟!
لا يزال قادة الأحزاب السياسية ورموزها وأعضائها في السودان يبحثون – حتى اليوم – عن معنى متفق عليه للممارسة الديمقراطية داخل أسوارها وعلى طاولات نقاشها، ناهيك عن طاولات التفاوض ومنابر المعارضة المسؤولة المفضية نحو ضوء ما. وهي – كما ترى – حال برتبة “مصيبة” لا يمكن تفكيك أسبابها أو تفنيد أطرافها بعيداً عن أزمة النخب السياسية القديمة المتجددة، والغياب المستمر لدور المثقف العضوي المهموم بالمناهج قبل المكاسب ..!
كثيرة هي الحكم السياسية المأخوذة من أفواه المستبدين وقديماً قال لينين “إن المثقفين هم أقرب الناس إلى الخيانة، لأنهم أقدر الناس على تبريرها”، وعلى ضوء هذه العبارة، يمكن تحديد مزالق وعلل وإشكالات ومهالك الممارسة السياسية في السودان. والذين اتفقوا مع حكمة لينين من الرواد والمفكرين في بلادنا كثر، من أحمد خير .. إلى محمد أحمد المحجوب.. إلى علي عبد الرحمن الأمين الضرير .. وغيرهم .. وليس آخرهم حسن مكي .. منصور خالد ..!
وعليه أقول – بكل اطمئنان – إن إشكالات الرؤية السودانية لمفهوم الممارسة الديمقراطية يكمن بعضها في الآتي: غياب الرؤية الفكرية المتماسكة لمفهوم الديمقراطية عند المؤسسين والرواد، ومن ثم الورثة غير المجددين، والتركيز المخل على المواقف والأدوار على حساب المنهجية والأفكار. فضلاً عن عيوب النشأة واضطرابات التشكيل ..!
الأحزاب السودانية على اختلاف مشاربها لم تُجر أي مراجعات فكرية لتجاربها، وبالتالي لا تزال الديمقراطية ليست قضيتها الأولى ولا حتى المركزية. ومع مركزية القرار – وانفراد الزعماء والقيادات بالتخطيط دون الأغلبية – لا تزال هوية المؤسسين والرواد تؤثرعلى طبيعة الحراك السياسي. والنتيجة عجز معظم الكيانات الحزبية عن استقطاب الرموز المستنيرة المؤمنة بالديمقراطية الحقة، وتحولها إلى كيانات نخبوية، وفشلها في أن تصبح مؤسسات وطنية تقترب بمواقفها من مواقف الشعب وأولوياته الوطنية..!
وهكذا! بين الفضفضة السياسية والاستهلاك المحلي، تدور دوائر المفاوضات، وتلتف دورات الاشتراطات، عطفاً على ما فات، ونصباً على ما هو آت..!