علي مهدي يكتب : الجنينة دار (اندوكا) جنة الغرب وزهرة دارفور الكبرى
صنع العبدلاب والفونج دولة ما غابت عنها الشمس إلا بعد أن ركن سادتها للظل
أمريكا من باب الفنون تجيد الحوا حوارها مفتوح
عدت يا سادتي إلى الغرب الأقصى كثيرًا، وأمريكا فتحت لي أبوابها كلها الممكنة، مسارح وقاعات تدريب ومحاضرات، ومشيت في المدن الأمريكية الجميلة بتنوعها، تحتفي بي وتنظر لتجاربي، وتبحث في تفاصيلها، وتسهم في انتقالات كُثر للمسرح الوطني – مسرح البقعة فيها. وتقدر جيداً انني قادم من الغرب الأدنى من الجنينة والفاشر ونيالا ومن حجر سلطان من نواحي جبال النوبة.
(أمريكا) التي ذهبنا وذهبت إليها كثيرًا، تجيد إدارة الحوار، حوارها مفتوح، هكذا كنت أرى، ولا أزال أعتقد أن الحوار وسيلة أنجع، حوار مؤكد في القيم الأعلى والأسمى، كتبت في دهاليز سبقت.
يوم كانت (الحرية) تصدر جريدة في الخرطوم، ورحمة ومغفرة لشاعرنا الراحل سعد الدين إبراهيم، وعمر مديد للزميل الحاج وراق، يومها وعندها كتبت ثلاثة دهاليز عن حوار الحضارات، كيف كنا نرى الحوار يوم جلسنا نسهم في بيروت، في إعداد العقد الثقافي العربي الجديد، كان ذاك المشتهى للمفاهيم والفكر في تأسيس الحوار، قيم تظل في خمول لا تلهمها قدرة الحركة المفضية للفعل النبيل والجميل.
حتى مرت تصاوير ذاك المساء، والدنيا رمضان، وفي ساحة السادة البرهانية في (الجنينة)، بعد أن فرغ أهلها من صلاة التراويح، جاءت جموع أهلي تشهد الفرجة المفتوحة الأبواب، (بين سنار وعيذاب). قلنا تلك هي عروضها الأخيرة وقتها، الجمهور الكبير، قُدر يومها بأكثر من اثني عشر ألف متفرج ويزيدوا. جلسوا في وقت مبكر، الصبية والسيدات تقدّموا المقاعد، أحاطوا بالمكان، والساري يدلهم على مركز القوة في الفرجة ، يتوسط الساحة وهو نقطة المركز، ونون المعارف، إذا شاء دلهم على مكان العرض، وأضاء لهم طريق الفرجة، وجاءت جموع تسمع أن بعض أهل فن التمثيل في (الجنينة) منذ أيام، وهم في شوارعها المتسعة في ود ومحنة، تأتيك التحايا الترحاب، الجنينة دار (اندوكا) جنة الغرب، وزهرة دارفور الكبرى، وفي انتظار لم يطل، اندمج الجمهور الذكي في الفرجة، أصبحوا والمشخصاتية فريقا واحدا، قدموا مبادرات المشاركة، تحركوا، رقصوا، ثم أنشدوا، وبين ذلك كان انصاتهم للحوار أكثر، فهمت بعدها من محدثي الحبيب الدكتور فضل أحمد عبد الله سليل دار مساليت الباحث والناقد وعضو فريق مسرح البقعة الأول في بدايات التعاون مع المانيا. إن الإشارة إلى (سنار وعيذاب) كانت أوضح. وكأنها (الجنينة) بوابة السودان غرباً، إذا ما وقف حراس (سنار) على كل البوابات، عادت للوطن تلك الصور يوم أن صنع (العبدلاب والفونج) دولة ما غابت عنها الشمس، إلا بعد أن ركن سادتها للظل، فهجعوا، واستراحوا، وأراحوا، وكانوا يوم جاءت الحرابة أبعد ما يكونوا عن القيام ثانية، فهل في فرجة (بوتقة سنار) التي عرضت تلك الأيام على مسرح (لماما) في (نيويورك) خارج (برودوي) استدعاء لتلك اللحظات، وتوسلنا بهم؟ نعم، وغيرها من الإجابات الممكنة.
جولتنا الدولية تلك كانت موسمًا جديداً على مسرح البقعة، نُطوِّر فيها من وسائط عرضنا، ونجدد فيه شراكاتنا الإقليمية والعالمية، نتشارك ذاك الزمان وقد كنا جزءاً من الشبكة العالمية (مسرح بلا حدود)، مبادرة وليست منظمة، مبادرة تسهم في بناء صور جديدة، وفكر مُغاير، يعمل على تعزيز السلام الدولي، باستخدام الفنون الأدائية.
كان لقاؤنا الأول عبر الرسائل، بحثوا هم عن الأنشطة التي ننظمها في الوطن وعلى المستوى الإقليمي والدولي، ونبحث كنا وما زلنا عن الجديد في عوالم الفنون، نكتب ونسأل ونسعى لتكون فنون الوطن حاضرة في فضاءات المجتمع الثقافي الدولي.
(نيويورك) شهدت في سبتمبر أواخر الربيع، (ملتقى العالم للمسرح والسلام). شراكة بيننا ومجموعة مسرح الاتصال الأمريكي TCG، واحدة من أهم مؤسسات المسرح في أمريكا، وبيننا اتفاقية تعاون مشترك، وشاركوا بموجبها في دورات مهرجان البقعة الدولي للمسرح، ونظموا ورشا لتأهيل وتدريب مديري المؤسسات الثقافية في الوطن. وكان ذاك الملتقى الدولي جزءاً منةً متابعة الإسهام الإبداعي في مناطق الصراع، ذات مشروعنا الذي تطوّر من تجربتنا (مسرح بين الحدود)، عندما انطلقنا بالفكرة من مدينة (ملكال)، ثم مدن دارفور الكبرى، القرى والميادين والأسواق معسكرات النزوح. واستكملت بشراكتنا المستنيرة مع المسرح (الألماني والهولندي والنرويجي والبرازيلي والبولندي واليوغندي والأمريكي) وتجارب مسرحية أخرى في العالم، واتّسعت وقتها الفكرة، ليصبح المشروع ببعده الأممي أكثر تأثيراً، عندما يجذب بعض المؤسسات العلمية، والمنظمات مثل (اليونسكو) التي درست، وبعثت بواحدة من أجمل الخبراء، أمضت أشهر بيننا، فترة طيبة، زارت وشاهدت تجارب لورش محلية، والتقت بالمبدعين من الفريق التمثيلي لمسرح البقعة الشركاء في كل هذه التجارب القطرية والإقليمية والدولية. لتعد دراسة عن المسرح في مناطق النزاع، وأكمل الآن كتابي عن التجربة ومدى إسهامها في ثقافة السلام.
ذاك اليوم السعيد وفي المدينة الأحب (نيويورك) كنا ندخل في الظهيرة، واحد من أهم المسارح في العالم، غير بعيد عن (برودوي) عالم المسرح الأمريكي والعالمي، مسرح (لماما)، تأسس قبل أكثر من أربعة عقود، بدأ كما قالت لي المسرحية الأمريكية العالمية (الين استيورد) يوم جلست تتابع على مقعدها المتحرك في قصر مدريد – إسبانيا، العرض الأول العالمي للفرجة (بوتقة سنار). قالت وحماسها بلا حدود (هذه تجربة ينبغي أن نعمل على عرضها في أماكن أخرى، مسرحنا في (نيويورك) يرحب بك، (برودوي) تحتاج من آن لآخر إلى ضجيج خلاّق، ليخرج الجمهور من سجن مقاعده إلى دائرة العرض، راقصاً ومعبراً، نحتاج إلى هكذا تحولات، قل نعم وأنا على استعداد).
وانتقلت ولم تشهد حلمها يتحقق، لكن اسم المسرح القديم التاريخي أخذ من اسمها الآن بريقا، عادة يكون حلم كثير من أهل فنون الأداء أن يعرضوا في (برودوي) أو خارجه بمسافة متعارف عليها دولياً، و(الين استبورد) عندما ذكرتني بعدها في زيارتي ولقائنا الأخير في (نيويورك) أخذتني في جولة، أشهد الأعمال الإضافية في المبنى الكبير، يتوسط الشارع الرابع الشرقي في المدينة الأفخم والأضخم، كانت تؤكد على أهمية أن يأتي مسرح البقعة ليضيف إلى (برودوي) شيئاً من حقائق الجمال في تفاصيل الفرجة التي أسعدها المشاركة في الجزء الأخير منها، وعلى مقعدها المتحرك، إنها كانت تعبر عن أشواقها عندما أسست مع الآخرين في الوسط المسرحي العالمي (لجنة الهوية والتنمية الثقافية)، التي تشرف برئاستها منذ العام 2006م يوم انتخبت في مانيلا الفلبين لأول مرة عضواً بالمجلس التنفيذي للهيئة الدولية للمسرح ITI .
وفي (مدريد), جلست (الين استبورد) المؤسس لاجتماعات اللجنة تطلب في ذوق عالٍ, الإذن بالحديث مني أنا الرئيس الأحدث على هذه اللجنة المهمة في الهيئة الدولية للمسرح ITI / يونسكو، لم أكن بعد انتخبت نائباً لرئيسها.
تلك يا ساداتي الأفاضل واحدة من حكايات المدن البهية من الجنينة زهرة دارفور الكبرى ومدن امريكا، الحوار الممكن بدأ من هناك حتى اكتمل في بعض آياته وتجلى في واحدة من قاعات مكتبة الكونغرس الامريكي نيويورك.
دهاليز مفرحة بين الذكرى وعرض الحقائق والتجارب.
سبت قادم أخضر