منى أبوزيد تكتب : فوق القانون..!
“لا تطلب الصحراء فهي بريئةٌ.. في السوقِ تُمتحنُ النَّبالةُ والضِّعَة”.. أحمد بخيت..!
“مارينا إبراموفيتش” فنانة صربية لها تجربة فنية جريئة وقاسية وشهيرة جداً، قامت بها في سبعينيات القرن الماضي، وكان القصد منها قياس معدلات الخير والشر في سلوك البشر الخطائين إذا ما أتيحت لهم الفرصة كاملةً للتمتع بحرية أخذ القرارات دون أن يتم إخضاعهم لقانون بعينه أو شروط بعينها..!
وهكذا وقفت “مارينا” لمدة ست ساعاتٍ متواصلة بلا انقطاع، ودون حراك، وبعد أن وضعت بجانبها طاولةً – رصَّت فوقها سلاسل حديدية، وسكاكين، ووردة ومقص، وأشياءً أخرى – منحت الجمهور “الذي ألجمته الدهشة” الفرصة كاملةً لكي يفعل بها ما يريد، أو ما يراه مناسباً، مع وعدٍ قاطع بأن لا تأتيَ هي بأي ردة فعل على الإطلاق، وأن لا تقوم باتخاذ أي إجراءات قانونية في مواجهة الذين يشتركون في ذلك العرض الغريب..!
فما الذي حدث؟. في البداية كانت ردة فعل الجمهور سلميةً جداً، إذ اكتفى بالوقوف أمامها والتفرج على وقفتها الثابتة الصامتة التي تحاكي وقوف التماثيل. ولكن حينما تأكد ذات الجمهور من أنها لن تقوم – حقاً – بأي ردة مهما بلغ سوء أفعاله تجاهها، لم يستمر بالتفرج، وشرع بعضه في لمسها، ثم أصبح بعضه أكثر عدوانية – بعد مرور بعض الوقت – فمزّقوا ملابسها، وخربشوا بطنها بأشواك الورود، وبلغ ببعضهم الحال إلى أن يتحرش بها. ثم قام أحدهم بوضع المسدس على جبينها، قبل أن يتدخل أحد الأشخاص ويأخذ منه المسدس..!
بعد انتهاء الساعات الست – التي كانت مقررة كفترة زمنية لتلك التجربة – تحركت “مارينا” من مكانها دون أن تحاول اتخاذ أي ردة فعل عدوانية في مواجهة الذين قاموا بإيذائها. أما الجمهور فقد هم معظمه بالفرار ما أن رأوها تتحرك، ظناً منهم أن ساعة ردة الفعل قد حانت. لكنها لم تفعل شيئاً بطبيعة الحال..!
فما الذي أثبتته مارينا للناس بتلك التجربة يا ترى؟. لقد أثبتت باختصار أن البشر الذين تتعامل معهم كل يوم في حيك السكني أو في مقر عملك والذين يبادلونك التحية ويلاقونك بالابتسامات – ويبدون لطفاء وطيبين طوال الوقت – قادرون على ارتكاب أفعال شنيعة جداً إذا أُتيحت لهم الفرصة لفعل ذلك، شريطة أن يتأكدوا من عدم خضوعهم لأي مساءلة قانونية، وعدم تعرضهم لردود فعل مساوية لشرورهم في القوة ومعاكسة لها في الاتجاه..!
طيب، ماذا يعني إسقاط ذات التجربة على أقطاب السلطة في بلادك؟. يعني باختصار أن السلطة المطلقة – التي تتمتع بها بعض الكيانات بدعوى الشرعية الثورية – هي مفسدة مطلقة من جهة، وهي كارثة مطلقة من جهةٍ أخرى إذا اقترنت بضمان الإفلات من المساءلة فالمحاسبة وبالتالي العقاب..!
بحياد موضوعي – أرجوك – تأمل في بعض أشكال ممارسة السلطة في سودان ما بعد الثورة، تفرّس جيداً، ولسوف تخلص قانعاً إلى أن كل مسؤول تبوأ منصباً بفضل انتمائه الحزبي وليس كفاءته المهنية هو مشروع طاغية. وهذا يعني – بالضرورة – أن تاريخ الكفاح الشعبي نحو التحول الديمقراطي الحقيقي – والمنشود – في هذا البلد سوف يبقى سلسلة انتقالات من سواعد بعض الطغاة إلى أكف بعض المستبدين، إن لم تتغيّر “أنت”. وتغييرك هذا لا يعني أن تهدم جبلاً أو تحفر بئراً. فقط جرِّب أن تفرد مساحة مقدرة لكلمة “لا” في رقعة ردود فعلك..!
لا للشيطنة، لا للأبلسة، لا للأدلجة، لا للتخوين، لا للإقصاء، لا للفساد المضاد في مواجهة الفساد، لا للتطرف، لا لتجاوز مباديء العدالة ومُمسكات القانون بدعوى تفعيل ضرورات الشرعية الثورية، لا لكبت حرية الرأي والتعبير، لا للتعدي على أبجديات حقوق الإنسان. لا لكل ظلم أو تجاوز أو خطأ. ونعم للحفاظ على كل المباديء التي قامت لأجلها وانتصرت بفضلها هذه الثورة. هذا هو المخرج الوطني الوحيد، ثم نُقطة سطر جديد..!