السودان بلدٌ فيه القانون, والقائمون على أمره محل احترام الشعب السوداني, بل القضاة والمستشارون والمحامون وحتى النظام الأهلي محل تقدير منقطع النظير, وحتى العرف الأهلي راكزٌ ومستقرٌ وثابت الأركان ومُتداولٌ بين القبائل ويُحل به أجعص القضايا.
القضاء السوداني من لدن أبو رنّات حتى اليوم هو قضاءٌ نزيهٌ ومستقلٌ, ويقوم على رؤوس قضاة جهابذة وعدول وأكفاء, علماً ومعرفةً وخبرةً, وبل سلوكاً واستقامةً, وحتى دارسي القانون ممن لا يعملون في النيابة والقضاء, بل حتى القضاء الواقف مهنة المحاماة مُحترمة, ويقف على رأسها محامون مسؤولون وبينهم وبين القضاء الجالس احترامٌ شديدٌ.
إذن القضاء في السودان من النظام الأهلي وحتى القضاء الواقف والجالس, جميعهم يعملون بانسجام كامل ومُتعلمون ومُؤهِّلون تأهيلاً كبيراً, وكذلك يتميّزون بالنزاهة والحيدة والاستقلالية, لا يسمحون لكائن من كان التدخُّل في أعمالهم, وأيضاً هم محل احترام وتقدير كل أركان السلطات تشريعية وتنفيذية, ولا تتدخّل أي سلطة في عملهم, بل كل إجراءاتهم الإدارية تتم عندهم عبر مؤسسات القضاء والنيابة العاملة, وذلك عبر مجلس القضاء العالي أو مجلس النيابة حيثما كان.
لم يحدث تغولٌ واحتكاكٌ بالقضاء والنيابة إلا في ظل حكام الدولة الآن, الذين اسّسوا وأقاموا لجنة سياسية صارت كل السلطات بيدها وفصلت مستشارين وقضاة على أسس غير المتعارف عليها في النظام القضائي والنيابة العامة السودانيْين بالظن باللون السياسي, وكان الأمر مثار استغراب ودهشة الشعب السوداني, وحتى في العالم ومحيطنا الإقليمي والعارفين للأمر من جيراننا, لأننا أسّسنا أنظمتهم القضائية. وصارت مثار تقدير واحترام شعوب تلك الدول, بل حتى قُضاتنا ومستشارينا الذين بُعثوا لهذه الدول مازالوا مكان التقدير والاحترام.
إذن قضاء بهذا الأثر والتاريخ لا يُمكن أن يكون محل مرمطة أو إهانة أو تحقير من أيِّ لجنة علت أو نزلت, ولا يُمكن أن يكون في موقع تسييس.
ولذلك تقدم القضاة والمستشارون في قرارات الفصل التي طالت من لجنة التمكين كانوا على علم من حيث القانون إن المحكمة الإدارية ستتخذ القرار الصحيح الذي ينسجم مع القانون. دون النظر على الزمالة القضائية, ولذلك لما أخذت المحكمة القرار بعدم قانونية ما قامت به لجنة التمكين وكان التسبيب من حيث الحيثيات والوقائع التي اعتمدت عليها الدائرة القضائية الإدارية كانت كافية لبطلان قرارات لجنة التمكين, وبذلك فتحت باب التقاضي على مصراعيه لكل موظف أو عامل شرّدته لجنة التمكين بقراراتها الإدارية التي لم تقف على رجلين أمام القضاة الجهابذة الفحول, ولذلك شكّل القرار صدمة للجنة التمكين, ومما جعل أحدهم يبحث عن (دِريبات) ليعيد الحياة لهذه اللجنة, وهو فعلاً قرارٌ وضع الأمور في نصابها, وخاصةً أنه قرار نهائي نسبةً لعدم قيام المحكمة الدستورية التي عطّلتها قحت حتى لا تبطل اعمالاً كثيرة من لجانها التي تعمل في الظلام,
بل حتى لا يحدث طعنٌ في الوثيقة الدستورية وما ترتب من مخالفات فيها وما أدخل عليها من تعديلات, اضرت بالدولة والمواطن وحتى العمل السياسي, بل أصرت بقحت ذاتها.
إن قرار المحكمة الإدارية العليا قد حسمت كثيرا من الإشكالات التي تعرض لها عدد كبير من المفصولين بقرارات لجنة التمكين, وأعادت الأمور إلى نصابها وفتحت الطريق لتكوين مفوضية للفساد من قضاة ووكلاء نيابة وشرطة وعلماء قانون, بل من محاسبين ومراجعين قانونيين وكل التخصصات التي تُساعد في الوصول إلى بؤر الفساد وتجتثه بالقانون وعبر كل إجراءات التقاضي.
شُكراً للقضاء السوداني, أثبت أنه عند ظن المواطن السوداني به, وإنه لا ترهبه السياسة, بل يرهبه ضميره ودينه وعلمه ومعرفته وتجاربه القانونية.. إنها دولة العدل.