على مهدي يكتب : في المحبة والاستذكار
الفاشر أبو زكريا مجدة وعزته في أهله، تجمعهم عَلى النوائب الألفة
حكايات حضور فنوننا الوطنية في المنصات الأممية بُعيد انطلاقها منها دارفور الكبرى
من الفاشر إلى بالتمور، واشنطن، نيويورك نيوجرسي وبالعكس
إلهي.. أوجدت الكل
الفاشر أبو زكريا، فاشر السلطان علي دينار، تأتيه من حيث تكون الاتجاهات، يستقبلك بالبشر والرمل الناعم وشجيرات قصار، والناس في الطرقات، وحجارة سوداء كانت في تواريخ مضت جبالاً شامخات. وإذا نزلته خريفاً، سجادة خضراء تفتح لك أبواب المدينة، تستقبل أهلها، وبعض أهلها، وضيوف أهلها، بذات الترحاب. الفاشر الكبير في الفولة اللامة، والنساء الأكثر بهاءً، والبلامة تغطي الفم ولا تحجب البسمة الواضحة، تشع خلف الثوب (الزراق)، كان لونه أسود، بعطر أصحابه تتحوّل ألوانه البهية رغم المشقات إلى أطياف وأطياف، ما تلتمع السماء بالبروق حتى تضئ قرة العيون شأنها وأهلها.
الفاشر ذاك الصباح أجلسني على كرسي السلطنة، غنت لي الحكامات، دخلته في زيارتي الأولى مع أول رشاش للمطر المنتظر، فكنت منه وكأني الاستجابة. دخلته أول مرة أحمل في خاطري الكثير والصور البهية عن حاله، مجده وعرشه وملكه وعزته، في أهله وتنوع سحناتهم، تجمعهم على النوائب الألفة، ولا تفرقهم ساعات الخير، ما يميز آخر عن آخرين سوى أنها القسمة وليس الحظ.
الفاشر السوق، تضج فيه الأشياء بلا مواعيد، تسمع للأغاني الأحدث، لها رُوّاد، وللصور الملونات للفنانين مساحة في أبواب حوانيتها، الفاشر من الوهلة الأولى أخذني لمعسكر (أبو شوك)، تقطع له الرمل والحصى، وتبكي من تحتك العربة تئن قليلاً تسمع لها ضحكة وما هو أقرب للبكاء، تقول في سرك يحزنها تلك الأطراف، تبعد عن المركز، يسكنها أهلك في غير ذي سكن، الماء تُقطع له المسافات، والفضاء الواسع يمتد إلى أبعد ما تلمح، الناس أهلي جاءوا المعسكر لخير هناك ظنوا. وقفت وحدي أجمع رملي المتسرب من كف يدي، أعود انظر إلى سماء مترعة بالغيوم، لو أنها انهمرت، أضاعت علينا اللبن. وما رمينا في الحفر بذوراً لنحصد إلا الحزن.
(أبو شوك)، قبالة الفاشر الكبير، الفرس الأبيض يرمح في عنفوان الليل البهيم يعذب الخواطر، وعدتها مراراً أبحث عن طفلي الدائم البحث عنه، حيثما يكون خلفه أرحل، أبحث في الواقع والحقيقة عني، نفسي التي ضاعت بها روحي، ويا الفاشر أبو زكريا شوقي إليك طال. نعم سمعت الجملة مرة وأخرى تتردّد في فضاءات الفن.
حينما ذهبنا نقدم عروض فرجة (بين سنار وعيزاب) لمسرح البقعة، كانت الفاشر والجنينة ونيالا وكاس، الحاضنة، تلك المدن التي أعطت عروضنا المسرحية من سحرها، ما جعل عواصم الدنيا من (نيويورك) إلى (مانيلا) وما بينهما، تطرب لغناء بهيج، ورقص رقيق في أطرافه، تُبرز قيم الحياة المُشتاقة لتصبح مُمكنة، وفنون الأداء التمثيلي تملأ المسافة بيننا والآخر، رغم تباين اللغات، هو له في حساباته تفاصيل، ولنا في عروضنا بعضٌ من أحلام أهلنا، أينما كانوا، دون خطوط عرض أو طول، كلها كانت سماء الوطن الكبير، مرآه تنعكس عليها بوضوح تعابيرنا الفنية المُعاصرة، نكسوها من إبداعاتهم وتفاصيل حياتهم اليومية، وأخذتنا عزة فنونهم الأصيلة والتقليدية والشعبية، وموروثاتهم التي تدثرنا بها نلبسها كل يوم حلة جديدة نباهي بها فنون العالم.
تفحصت جيداً المذكرة التي أمامي، قبلها نظرت، تأمّلت برنامج وجدول الأعمال لما تبقى من هذا العام، ابرتني هذه السنة براحة ووقفة أقل من الترحال، أمضيت بين أهلي أوقاتاً طيبات، أراجع كنت عندما أعود مواقيت انطلاقة أخرى، شغلتني عن الأسفار ارتباطات أهم، جلست للتشخيص وهو عشقي الأول، عكفت على مراجعة شخوص في سلسلة حكايات سودانية، أمتعت روحي بلحظات البحث عن أطراف الخيوط في الشخوص، أمسك فيها تعينني على الدخول تحت جلدها، ولم أكن أفضِّل هذا المنهج في حالاتي كممثل، كنت أقف دائماً على أطراف الشخصيات. في (هو وهي) لم أكن (محمود) إلا بعد أن صار (ود الداية)، كان غريباً عني أيامه الأولى، لذاك أظن أن (هو وهي) رائعة أحمد عاطف لم تنجح في عروضها الأولى، فشلت في إحداث القبول وقتها، وأدركني حزن عميق، واكتشفت كم هي بعيدة فكرة التمثيل عن الامتثال لكتابات المؤلف وامتناعي وتمنعي وخروجي عن إطاره العام، لا يسجنني، فتحرّرت بعدها من تلك الأقواس التي يصنعها المؤلف قبل الجمل الحوارية تحتوي على تعليماته وإشارات يظنها تعين، وما أظن، وأن تفلح مرة، لكنها عندي في مشروعي المسرحي الجديد ما كانت تبدو واضحة، أو ممكنة، سفري الأخير والقادم بينه مسافة، أمضيت أعد فيها لمُشاركة هي الأهم عندي، انتقلنا بعروضنا المسرحية بين عواصم الدنيا شرقاً وغرباً، نزلنا الشمال الأقصى، وزُرنا الجنوب الأبعد، وتجوّلنا في الجوار الأقرب، أدرنا حوارات غنية، بعرض فنون الوطن، ولم نكن الأفضل، توفرت لنا باجتهادات الفريق الواحد فرص تميزت عن أخريات، واكتسبنا علاقات عمل فني واسعة، قدّمنا الألوان الزاهيات المُشرقات والمتربات أحياناً في فضاءات عواصم الكون، يوم دمدمت النوبة في (مانيلا) كان ذاك حدث ما أدركت بهجته إلا يوم جاء الناس من حيث لا ندري يركضون نحو الساحة حيث شكّلنا معهم دائرة كبرى تتسع كلما زادوا نفراً، واستمعوا لحواراتنا، لغة أقرب إليهم موسيقى وإن غابت تفاصيل الجمل، لكنهم أقلها أدركوا الحروف ودلالاتها، تلك الأجراس التي رسمت حروفها واسمها التام شوارع وأسواق الفاشر، هي ذاتها التي دخلت الى بهو القصر الكبير في مدريد اسبانيا, التي أخذت من اسم الفراديس، تغير في الحروف لكن صولجان (اباداماك)، أعاد للأندلس وعيها، ولم تغب عن الأعمدة ذات التيجان الذهبية لحظات جمالها هي تلبس الآن جلباباً و(مرقوعة) ألوانها تنهمر على عتبات الدرج الرخامي الأبيض ناصعة، تعود إليه ألوان المياه في الوادي يأتي من الجبال، الخريف يتجلى في المياه العذبة الحلوة الصافية تذهب وكأنها على عجل، هي التي جعلت (الجنينة) اسماً على مكان، مخضرا والقصر السلطاني في أعلى الجبل يحرس المياه، تفور، تنهمر تندفع مثلما تتحرّك شخوص الفرجة (بوتقة سنار)، غيّروا من طبيعة الأشياء في (بلتمور) غير بعيدٍ عن (واشنطن) غاب بعضهم وحضر من شاء له الرحمن الحضور، وتغزل الطيب والبخور في المقاعد الوثيرة، والناس بعضهم وقوفاً، وضرب النحاس، وجاءت الإيقاعات تشكل علامة الانتباه، والإنصات تام، هذه فنون الناس تذهب للناس، دون مواقيت وموانع بقصد الإفهام، وتنشد أن تحدث تغيير في مفاهيم غابت عنها تصورات الحقائق، فجاءت وكأن الغرب كله الأقصى والأدنى ما عرف عنا إلا الصور المغايرات.
وعدٌ أن أكمل دهاليزي القادمة، حكايات الحضور في المنصات الأممية لفنون العرض الوطنية عندما انطلقت منها دارفور الكبرى.