وللأرض وجه..
على الأقل في نظري أنا… وتحديداً أرض شمالنا النوبي..
وهذه عنصرية انتماء… لا استعلاء..
وكأنها التي عناها مصطفى سيد أحمد غناءً: ها هي الأرض تغطت بالتعب..
فهي تغطت بتعب الإنسان النوبي..
تعبه اللذيذ؛ عزقاً… وبذراً… وحرثاً… وسقياً… وعرقاً… وجنياً… وحصاداً..
وهي تشبه لي وجوه البعض… ووجوه البعض هذا يشبهها..
وأوجه الشبه – في هذه الوجوه – الطيبة… والحنان… والأصالة..
ولكن ثمة وجهاً – في رأيي – هو الأشد شبهاً..
أشد شبهاً بها – وأشد هي شبهاً به – هو وجه جدتي ابنة ساتي فقير..
وهي والدة أمي… بنت العمدة..
وما كنت أناديها إلا بمفردة (يو) النوبية… وتعني الأم… أو أماه..
وذلك من شدة طيبتها التي تشبه طيبة أرضنا..
ثم هناك وجوهٌ تذكرني بوجه جدتي هذه؛ من حيث التشابه في صفات الأرض..
وأغلبها وجوهٌ حلفاوية؛ في مصادفة عجيبة..
أو ربما كانت مصادفة طبيعية؛ بحكم روابط الزمان… والمكان… والإنسان..
ومنها وجه ابن سرة غرب… الباحث فكري أبو القاسم..
فما أن يقع بصري عليه حتى أذكر جدتي… فأرضنا… فنخيلنا… فشتاءنا..
وشتاؤنا هذا يُسمى هناك (كياه)..
وحين تم تعريبه سُمي كياح؛ وهو فصل يتجمد معه (وجه) الماء في الأزيار..
وكنت أعشقه لتزايد حنان جدتنا بنا خلاله..
ومن (وجوه) هذا الحنان الحرص على احتسائنا شاي الصباح مع القرقوش..
وكذلك شاي المساء..
فهو يدفئ – مع القرقوش – حسب قولها… وقد صدقت..
وفكري هذا لا يقل عشقاً للأرض مني… إن لم يكن يتجاوزني بسنة ضوئية..
والفرق الوحيد بينه وبين جدتي أنه ذو فصاحة عربية..
فهو يُجيد لغة الضاد بأفضل من أصحابها… تماماً كإجادته لغة أرضه الأم..
أو لغة أمه الأرض..
بينما بنت ساتي فقير كان لسانها أسير اللكنة النوبية عند التحدث بالعربية..
والبارحة كنت اتصفح كتاباً لصديقي فكري هذا..
وكان عن الأرض… الأرض النوبية… أرض كجبار… وعنوانه (قريتي تتهدم)..
فهو مهمومٌ – ومفتون – بأرض النوبة..
الأرض التي يذكرني بها وجه جدتي… من حلفا شمالاً وإلى القدار جنوباً..
وليته مدَّ الأرض هذه جنوباً لتشمل أرض الشايقية أيضاً..
فسكانها نوبيون مستعربون… وأرضهم بها العديد من آثار أرض النوبة..
بها معبد تهارقا… وطرابيل نوري… ومقابر الكرو..
وصديقي وراق – من دويم ود حاج – حين يُسأل عن قبيلته يقول إنه نوبي..
كما بها بعض لسانٍ نوبي… إلى جانب العربي..
فكثيرٌ من أدوات الزراعة – على وجه التحديد – ينطقها بنو شائق بالنوبية..
وفضلاً عن ذلك بها وجوهٌ تذكرني بأرضنا..
تذكرني بوجه جدتي ابنة ساتي؛ ومنها وجه صديقي الحاج وراق هذا نفسه..
ثم وجه صديق الطفولة الباكرة عباس..
ولقبه أبو كريشة؛ وذات ضحى دعاني لمشاركته طعام إفطاره بحي السوق..
فكان طعاماً لن أنساه ما حييت..
طبقان كبيران القاسم المشترك (الأطعم) بينهما قراصةٌ تشبه وجه أرضنا..
إحداهما بالتقلية… والثانية بالسمن والسكر..
ومن فوقنا حجبت عنا الشمس أغصان – أو عراجين – نخلةٍ باسقة..
أعود إلى وجوهٍ من أرض حلفا… فأذكر وجه سري..
وجه صديقي – الشاعر الفذ – عبده فتحي سري من قرية (13) أشكيت..
وهو الذي ترجم القصيدة التراثية (دسي ليمونا)..
ترجمها من النوبية إلى العربية… فصارت كما في الأغنية (الأخضر الليموني)..
ثم وجه أستاذي محمد حسن سالومة..
وهو من قرية (33) فرص شرق… وكان يدرسنا العلوم والرياضيات..
كان أستاذنا بأميرية حلفا الثانوية العامة..
فهو يُذكِّرني بأرضنا… وبوجه جدتي..
وكان طيباً مثلها – الأرض وجدتي هذه – وحنيناً… وعطوفاً… وأصيلا..
ولم يُر يحمل بيده سوطاً قط… ولا يجلد طالباً..
ورغم ذلك كان الطلاب يحبون حصصه؛ ويتفوقون في مادتيه..
يتفوقون في كل من العلوم والرياضيات..
فكان مثالاً للمعلم العصري الذي ينجح في الترغيب… وينفر من الترهيب..
ويبقى المفكر النوبي فكري أبو القاسم هو سبب كلمتنا هذه..
فهو من أوحى إلى بتشابه الوجوه… من حيث لا يدري..
وجه الأرض… ووجوه البشر؛ من زاوية العطاء… والنكران… والطيبة..
وطاب كل وجهٍ يُذكِّرني بوجه جدتي..
ووجه الأرض!!.