سراج الدين مصطفى يكتب : نقر الأصابع..
(1)
غير الأغنيات العاطفية التي قدمها محمد وردي والتي مازالت حتى اليوم تُشكِّل إلهاماً لكل الأجيال المتعاقبة, أسهمت الأناشيد التي تغنى بها الفنان وردي إسهاماً مباشراً في بناء روح التّحرُّر والانتماء إلى الوطن في شباب السودان منذ الاستقلال على مَرّ العهود المُختلفة التي مرّ بها السودان, وبذلك أسهم في تشكيل جانب كبير من سيكولوجية الأجيال الناشئة على امتداد الوطن الذي كان يمتد لمساحة مليون ميل مربع.
احترم وردي نفسه, وقبل ذلك احترم رسالته الغنائية والموسيقية ولم يتساهل في تجربته الحياتية العامرة.. لم يساوم على شعبه وراهن عليه وكسب الرهان.. لذلك حينما ترى الدموع تتطفر من كل العيون, ذلك يؤكد على أن الشعب السوداني كان هو أسرة محمد وردي وهو بيته وأولاده.. وهو كل شئ بالنسبة له وبالنسبة لنا أيضاً.. لذلك كنت لا أرى ضرورة قصوى لتقديم واجب العزاء لعبد الوهاب وردي وأشقائه.. لأنهم افتقدوا وردي (كرب للأسرة), ولكننا افتقدناه (كأب) للجميع.
ويبقى رحيل وردي عبارة عن رسالة عميقة لكل المُشتغلين بفن الغناء خصوصاً الشباب منهم.. فهم من يتوجّب عليهم الوقوف والتمعُّن بعين فاحصة وبصيرة مُتأمِّلة للخروج بخلاصة واحدة.. هي أنّ الفنان إذا احترم نفسه وتجربته حتماً سيجد التقدير.
(2)
تحدث الكثيرون عن محمد وردي.. ولكن تظل الكلمات التي قالها الأستاذ الإعلامي (علم الدين حامد) من أبلغ الكلمات التي قيلت في الراحل وردي.. فهو تحدّث بلغة بسيطة ولكنها كانت عميقة.. كل مفردة أو كلمة قالها علم الدين حامد كانت بمثابة مقال كامل.. ولعل أبلغ ما قاله حينما قال (إننا لم ندفن وردي في مقابر فاروق بل “شتلنا وردي” في مقابر فاروق)!!
تلك الجملة ذات الكلمات المعدودة كانت هي الكلمة الأهم بين ملايين الكلمات.. ولعلها احتشدت بالصدق الدافق والعاطفة الجياشة.. وما قاله علم الدين حامد هي لغة ليست بغريبة أو بمستغربة عليه, فهي نتاج تجربة حياتية عميقة وطويلة ومُمتدة.
وأخيراً.. يبقى رحيل محمد وردي.. ليس رحيلاً عادياً.. علينا أن نتوقّف فيه قليلاً بالتفكر والتأمل في مجمل تجربته الحياتية والغنائية.. فهو كان فناناً على قدر عالٍ من الثقافة.. ولعله من القلائل الذين كانوا يتمتّعون بثقافة كونية عريضة.. فهو يمتلك ذخيرة معرفية كبيرة أتاحت له النظر من عدة زوايا للحياة.. لذلك جاءت تجربته متكاملة وعميقة والتصقت بالناس واقتربت من هُمُومهم وتفاصيل حياتهم.
(3)
الفنان الكبير الطيب عبد الله, فرض مدرسته الغنائية ذات الحُزن الخاص وأصبح في زمانٍ ما هو الناطق الرسمي باسم كل الحزانى والعشاق، أغنياته كانت تعبيرا حقيقيا عن صدق الشعور واحتشاد العاطفة البريئة في أغنياته التي كانت تعبر عن تجاربه الشخصية في الحياة، وذلك الصدق واقعيته كان سبباً في أن تكون كل أغنياته جزءا من الحياة اليومية السودانية.
وحزاينية الطيب عبد الله أكثر ما تتّضح في أغنيته الكبيرة “السنين” ويتجلى في “يا غالية يا نبع الحنان” ويمتد إلى “فتاتي”، ولكن غياب الطيب عبد الله الطويل عن أرض الوطن جَعل غنائيته في حدودٍ ضيِّقة ولا تجد مثل ذلك الانتشار القديم.. والطيب عبد الله الذي يتواجد الآن بمدينة جدة هو من أصول يمنية, حيث أنه والدته سودانية ووالده يمني.. ولكنه رغم ذلك الانشطار سوداني كامل الدسم والأوصاف.
الدكتورة نعمات حماد هي فصل مثير وعامر بالأحداث في حياة العملاق الفنان الطيب عبد الله.. ولكننا نأتي من الآخر كما يقال.. ففي العام 1967م تزوّجت نعمات من الفنان المعروف الطيب عبد الله, وتقول إنها عاشت زواجاً سعيداً أثمر هذا الزواج عن طارق وهو طبيب مقيم في بريطانيا وإلهام طبيبة مُختصة في البكتيريا.. وتقول إنه كان زواجاً سعيداً, ولكن توقّف أو بالأحرى توصلا إلى قرار الانفصال لأسباب بعضها خاص وبعضها عام, ولقد دفعت ثمناً باهظاً جراء هذا الطلاق بحكم أنهما زوجان مشهوران, حيث كان مرتعاً للعديد من الشائعات.