خفت خلاص..
اترعبت… رُكبي ساحت… وكذلك رُكب قلمي..
وذلك جراء وصفنا بأنا بتنا مُصنَّفين؛ ضد الثورة… وضد التحول الديمقراطي..
وأن الثورة الآن في خطر..
وأنها تتطلب من كل ذي قلم ديمقراطي أن (يهب) لدعمها في وجه الخطر..
بغض النظر عن أي شيء… وعن أي فشل..
حتى وإن كان من بين أوجه الفشل هذا الفشل في تكوين المجلس التشريعي..
يعني هو شيء مثل نغمة الطغاة في كل زمان ومكان..
والتي تتمثل في عبارة ذات طابع مشترك (لا شيء يعلو صوت المعركة)..
وحتى فرعون كان يعزف هذه النغمة قديماً..
حين استصرخ قومه (يريد أن يُخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون)..
لاحظ هنا يقول (أرضكم)… استعطافاً لهم..
وقد كان قبلاً يقول لهم (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي)..
فهم جميعاً هكذا… من طينة واحدة؛ الطغاة..
وهم دوماً في معركة… ودوماً لا يجب أن يعلو صوتٌ فوق صوت المعركة..
علماً بأن مفردة (فوق) هنا لا تصح لغة..
والطاغية يمكن أن يُولد من رحم الديمقراطية ذاتها… إن لم تردعه آلياتها..
فترمب – مثلاً – أتى إلى السلطة بوسيلة ديمقراطية..
ولكنه طفق يميل إلى الفرعنة اقتداءً بنظيره بوتين الذي قال إنه به معجب..
وكلما وجد أنصاراً غوغائيين ازداد تفرعناً..
إلى أن بلغت فرعنته حد توجيه الغوغائيين هؤلاء إلى اقتحام مبنى الكونغرس..
ولم تكبحه سوى آليات ديمقراطية أمريكا..
وقبل يومين كتبت خاطرة أسفيرية أتحدث فيها عن ولادة فرعون بتونس..
ولادته من رحم الديمقراطية… وهو قيس السعيد..
واستغل في ذلك – بذكاء – مقت كثير من التوانسة لجماعة راشد الغنوشي..
وأخذ يجمع خيوط كل الصلاحيات في يده..
حتى كاد يكتمل الآن مولوداً فرعوناً سويا؛ يصرخ أناااا…وااااء… أناااا..
ولا أحد سوى (أنا) يصلح لكم رئيساً… يا توانسة..
وحين كثر حشده الغوغائي بات يستغيث به لنصرة إصلاحاته الديمقراطية..
وهو إنما يعني في حقيقة الأمر: نصرتي (أنا)..
ويصيح فيهم كلما استشعر خطراً: (هبوا) لإنقاذ تحولكم الديمقراطي هذا..
ومن يقف في وجهه فهو من (فلول) الغنوشي..
وما أشبه كل شيء بكل شيء عندنا هنا الآن؛ من لدن فرعون وحتى قيس..
فنحن تتخلق لدينا فرعنةٌ الآن من رحم الثورة..
بل من رحم وثيقتها الدستورية ذاتها التي يُمزق منها ما يهدد الفرعنة هذه..
مُزق الاستحقاق البرلماني… فالاستحقاق الانتخابي..
ثم استحقاق المفوضيات… فالدستورية؛ يعني كل ما ينتقص من التفرعن..
فهم البرلمان… وهم المفوضيات… وهم محكمة الدستور..
هم كل شيء؛ ومن يعترض فإنه – حتماً – من (فلول) نظام البشير البائد..
حتى وإن كان ممن يعترضون على فرعنة البشير هذا..
فالمهم الآن أن يكون من جوقة الغوغائيين؛ و(يهب) معهم متى طُلب منه..
فلا صوت يعلو صوت المعركة..
والمعركة الآن ضد المكون العسكري؛ فلا هجوم إلا على المكون هذا..
ومن يرفض الهجوم عليه فهو من الفلول… وضد الثورة..
علماً بأن المكون هذا هو أحد أطراف المعادلة السياسية بحكم الأمر الواقع..
هو انحاز إلى الثورة… فنجحت..
ولم يقع الاختيار على أفراده بحسبانهم رموزاً للثورة… ودمائها… وشهدائها..
ولكن من يُفترض أنهم رموز ماذا فعلوا؟..
نسوا الثورة… والدماء… والشهداء؛ وتعاركوا على الكراسي والمناصب..
أليست هذه هي الحقيقة؟..
ألم يتجاهل رموز الثورة نص وثيقة الدستور التي تتحدث عن حكومة كفاءات؟..
وألم يدفعوا بعناصرهم الحزبية إلى الكراسي؟..
وألم (يطنشوا) البرلمان إلى أن كدنا نبلغ عامنا الثالث الآن من عمر الثورة؟..
وألم (يتخانقوا) على الفارهات؟… والإنفينتي؟..
وألم يضيفوا إلى فارهاتهم فارهة أخرى – قبل أشهر – بمليارات الجنيهات؟..
وألا يُعد هذا انفصاماً عن الناس في ضوء واقعهم الراهن؟..
بل وألا يُعد مثل هذا النهم السلطوي خيانة للثورة… وشهدائها… وتضحياتها؟..
وخيانة للشارع الذي أتى بهم إلى السلطة؟..
ثم لا يذكرون الشارع هذا إلا عند استشعار خطرٍ ما… كيوم محاولة الانقلاب..
وعندها يصيحون كقيس السعيد: هبوا لإنقاذ ثورتكم..
هذا ما ظللنا نصدح به – بكل منطق وهدوء وعقلانية – فينتقدنا الغوغائيون..
والذين من ورائهم… أو بالأحرى من فوقهم..
وينبهوننا إلى أنه ما من صوتٍ يعلو صوت المعركة؛ فأتذكر عبد الناصر..
ثم فرعون… فهتلر… فالأسد… فقيس السعيد..
ونحن من جانبنا نصيح: لا صوت يعلو صوت الحق؛ صوت المنطق..
والرجال يُعرفون بالحق..
ولا يُعرف الحق بالرجال؛ لا يُعرف بالفكي… ولا سلك… ولا حمدوك نفسه..
ومن أراد أن يخوفنا نقول له: لا اترعبت خلاص..
ورُكبي ساحت… وكذلك رُكب قلمي..
وخفـــــت !!.