!
“الخيانة من منظور النساء مسألة مُعقّدة لا تقتصر على تجاوزات الحواس الخمس”.. الكاتبة..!
في تلك الأيام العصيبة التي تلت إعلان “عادل” عن شروعه في الزواج من أخرى، دأب بعض أفراد أسرته على زيارة المكتب، والانفراد به في محاولات بائسة لتفتيت عزمه. كنت أرقب الباب المغلق عليه مع وفود اللوم والتحريض بقلق، على الرغم من يقيني وثقتي بصدقه وبقائه على العهد..!
بمرور الوقت خفَّ سواد الهالات التي كانت تحيط بعيني “عادل” وانفرجت أساريره قليلاً، فأيقنت أن فيالق جيش “رجاء” لم تقوَ على دك حصونه الراسخة في حبي. شيء من الارتياح بدأ يتسلل إلى نبرة صوته أنبأني بأن مخاوفه بشأن فقدان ولاء أبنائه قد تبددت، وبأنه بات يستبشر خيراً بمستقبلنا معاً – كلنا – هو، وهم، وأمهم، وأنا، وأبنائي القابعين في رحم الغيب إلى حين..!
توقعت أن تبادر “رجاء” بهجمة من تلك الهجمات الرخيصة البائسة التي تشنها الزوجات الأُوَل على الشريكات الجدد هاتفياً أو وجهاً لوجه، لكنها لم تفعل. تجاهلتني تماماً وكأنها تقول بأن قضيتها هي قضية مبدأ، ولا يهم – أبداً – نوع الحشرة التي حطت على صحن طعامها الأثير، فكل ما يعنيها هو وقوع “الفعل”. تلك القذارة التي لوّثت الصحن، وكفى..!
ذات صباح – لن أنساه – وبدافع من هاتف يمتزج فيه الخير بالشر، ارتديت أكثر أثوابي أناقة، تزينت على نحو مستفز، ثم يممت وجهي شطر مكتبها، مكتب غريمتي رجاء. أدخلتني عليها سكرتيرة لطيفة من ذلك النوع الذي تبدو عليه أعراض الفرح الدائم. لاحظتُ بخبث أن مكتبها يفتقر بشدة إلى لمسات الأناقة على الرغم من أثاثه الفاخر..!
هبت “رجاء” واقفة، رمقتني بكراهية وهي ترتجف من الغضب. أما أنا فقد جوَّلتُ عينيَّ بهدوء في ملامح ذلك الوجه، وفي تضاريس ذلك الجسد الذي استأثر بشباب “عادل” لأكثر من عشرين عاماً. رأيت بنظرة الغريمة امرأة تفصلها عن الخمسين بضعة فراسخ، تحاول أن توقف زحف السنوات الغاشم بالمبالغة في الحرص على زينتها التقليدية، الأصابع “المقمَّعة” بحناء حالكة السواد والمرصعة بخواتم كبيرة مليئة بالفصوص، “الغوايش” الضخمة المدببة كالأصفاد، والعينين المحشوتين بكحل يفيض عن حاجتهما، فتسيل بقاياه أسفل الجفنين..!
أما خلفية اللوحة فكانت “دخان” برتقالي غامق تزداد كثافته على أطراف اليدين والقدمين. صورة نمطية لزوجة في منتصف الأربعينات لرجل ميسور الحال، وموظفة حكومية من ذوات الشأن والدخل الجيد. زوجة وموظفة أربعينية تكلل سلوكها صرامة فرضتها مقتضيات منصبها الإداري، صرامة تتناقض بشدة مع جنوحها الحاد نحو إظهار أنوثتها في الزينة والملبس..!
تأملتُ “دخانها” البرتقالي الذي كان يشبه شموساً تحتضر في شفق المغيب، ورأيتها بعين الخيال وهي ترفُل – بزينتها البلدية تلك- في ثوب منزلي شفاف أمام عيني “عادل” فكدت أصاب بالجنون. من قال إن الحب عاطفة ديمقراطية تقبل القسمة على اثنين؟. ما الحبيب إلا ديكتاتور طائش يطيح بكل ما يعترض طريق استئثاره بنصفه الآخر..!
منحتني وقفتها الغاضبة الصامتة بضع ثوان كي أفكر قبل أن أغلق بنفسي باب مكتبها الذي تركته السكرتيرة الفرحانة مشرعاً. تقدمت نحوها بهدوء، خاطبتها طالبة – بلا مقدمات – وبتهذيب يشبه الوقاحة، سانحة تفاهم. لم أكن يومها مدركة لمدى وقاحة زيارتي تلك من وجهة نظر غريمتي. فقط كنت أود أن أبدأ حياتي مع “عادل” بخطوة مثالية توسمت فيها أن تقيني شر حرب زوجته، كما راودتني رغبة غامضة في إقناعها بقوتي وصلابتي وثباتي على العهد الذي قطعته على نفسي بالزواج من “عادل” مهما كلّف الأمر..!
لكن ردة فعلها بدّدت قناعتي المتشككة – أصلاً – في حبها لزوجها، أشعرتني أن خوفها على شكلها الاجتماعي أكبر من خوفها على توحد علاقتها بزوجها، وأن خوفها من مشاركة أطفالي المفترضين القادمين أبنائها في مال أبيهم التي جمعها بفضل وقوفها إلى جانبه، كان أعظم من حسرتها على “عادل” كرفيق عمر. كنت أظن أن التي تعيش في كنف “عادل” يوماً واحداً سيشغلها هو عن كل شيء سواه، فتكون أنثى عاشقة لا زوجة تقليدية. إنما، كانت لزوجته “رجاء” آراؤها المغايرة تماماً..!
أشارت غريمتي بسبابتها “المقمَّعة” نحو باب مكتبها وقامت بطردي شر طردة، ولم تنس بالطبع أن تحرص على أن يخرج صوتها هامساً وهي تردف في كراهية أن عادل “طاير”، وأن لا مانع لديها من أن أشبع به، لكنها لن تسمح لي – ما دامت حية – بمشاركة أولادها في مال أبيهم..!
مُنى أبو زيد
munaabuzaid2@gmail.com