“سبعٌ عجافٌ فاضبطوا أنفاسكم.. من بعدها التاريخ يرجع أخضر.. أشْتَمُّ رائحة القميص وطالما.. هَطَل القميصُ على العيونِ وبشَّرا”.. محمد عبد الباري..!
لم يولد المهاتما “غاندي” في يوم “خاص”، ولم يشهد العالم متغيرات ظاهرة أو حتى طفيفة في حالة الطقس يوم ولادته، بل أتى في هدوء وبساطة أنيقة كمئات العظماء الذين يأتون بلا ضجيج، ويرحلون في صمت، تاركين إرثاً جليلاً يحكي الكثير عنهم دونما كلام. كان يَفزع من الأشباح والهوام، وقد ظلَّت زوجته تعاني من إشعال الإضاءة في غرفة نومهما – كل ليلة – حتى الصباح لأنه كان يخاف من الظلام..!
لم يكن “غاندي” جاموس خلاء بأية حال، بل كان نموذجاً مناسباً ومُمَنْطِقَاً لشخصية البطل المترعة بمثالب نقيض البطل – “الأنتي هيرو” – التي أحيتها واقعية الفن الحديث. ولأن بساطته تلك لم تكن أمراً مفروضاً بل خياراً آمن به وسعى إليه، فقد حقق من خلالها مشروعه السلمي العظيم “الساتيا غراها” التي تعني ببساطة “المقاومة السلبية أو اللا عنفية” كوسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي..!
“تغيير المواقف ليس من شأنه أن يُقوِّض مفهوم البطولة كما أن تغيير الرأي في مطلق الأحوال لأجل الأهداف القومية ليس رجوعاً عن الصواب بل هو رجوعٌ عمليٌ – إليه”، متكئاً على هذه الفلسفة حقق غاندي كل إنجازاته الإصلاحية، بفضل تراجعه الشجاع عن بعض آرائه التي أثبتت الأيام عدم جدواها، فوضع بذلك حجر الزاوية لديمقراطية قوية شهد العالم ولا يزال رسوخها..!
في أثناء إقامته في جنوب أفريقيا، كوّن غاندي فرقة إسعاف هندية بهدف مساعدة الجرحى البريطانيين في حرب البوير، وقد ظلَّت فرقته تقدم الخدمات الطوعية للبريطانيين حتى في حروبهم مع “الزولو”. ظلَّ يفعل هذا على الرغم من تعاطفه العميق مع شعب الزولو باعتبارهم أسياد أرض وأصحاب حق، فهل كان غاندي ميكافيلياً؟. الإجابة على هذا السؤال تكفلت به قوة الهند السياسية والاقتصادية المتعاظمة، كما تكفلت به أضابير التاريخ التي لا تغفل شيئاً..!
ولأن البطولات السياسية ليست مواقف جذابة أو تصريحات داوية، بل نتائج لأفعال محسوبة ومرضية للشعوب ولتاريخها في النهاية، كان الرجل يرى أن بريطانيا – المستعمِرة – هي المعبر الوحيد لتطوير الهند، وأن الانتعاش الاقتصادي لن يكون إلا بالحفاظ على الصداقة معها. كل هذا في ظل الثبات على مبدأ أن الهند لا يجب أن يحكمها سوى الهنود، وقد كان له ما أراد..!
واقعنا السياسي في السودان يشهد مفهوماً مشوشاً لفكرة البطولة والإنجاز السياسي، وثقافتنا – التي تتكئ في خصوصيتها على موروثاتنا العرب أفريقية – كانت ولا تزال تُضَيِّقُ الخِنَاق على أي معنى عميق وهاديء لفكرة الإنجاز السياسي، خارج مصطلح “جاموس الخلاء”. فالممارسة السياسية عندنا لا تزال تسعى وترمِل بين قرارات عاطفية تشوبها الحماسة، وتهور سلوكي يكلله إقدام ساحات الوغى، وغضبات “مضر- زنجية” لا تأبه لمقتضيات الأحوال الراهنة، ولا تكترث لاعتبارات القوة السياسية الناعمة..!
“لا تدرك الحقيقة الكاملة إلا عين تنظر من ربوة الأبدية إلى الزمن كله”، وعين التاريخ تومئ دوماً نحو المنجزات السياسية، الوفاقية، الإصلاحية، التي تورق وتزهر تحت مظلة الوطن العظيم. أما كل ما عدا ذلك فهو يذهب جُفاء، ودونكم أرشيف الحكام وتواريخ الشعوب!.
منى أبوزيد
munaabuzaid2@gmail.com