سراج الدين مصطفى يكتب : نقر الأصابع
ثقافة الفنان.. ضرورة قصوى
وأنا طفل صغير في مدينة كوستي .. كنت أصحو باكراً .. مع قيام والدتي لصلاة الصبح .. كنت أسبقها و(أولع الكانون) .. وهي حينما تنتهي من صلاتها (بتشغِّل الرادي) .. ثم تأتي لتحضير شاي اللبن المقنن .. وارتباط والدتي بالراديو منحها ثقافة تكاد موسوعية رغم قلة تعليمها .. وتلقائياً وجدت نفسي مرتبطاً بالإذاعة خصوصاً اذاعة ام درمان .. حيث عبأت الإذاعة وجداني بشتى أنواع الثقافات .. كانت الاذاعة وقتها ذات برامج سلسة ومحتواها البرامجي في منتهى الرشاقة وخفة الدم .. ولكن اليوم تحولت برامجها الى كوم من الثقالة والمحتوى الملئ بالفراغ.
- في تلك السن الباكر استمعت لعثمان حسين ومحمد وردي وصلاح مصطفى ومحمد الامين وغيرهم من العظماء الذين لونوا وجدان هذا الشعب .. وبغير السكب الابداعي لاذاعة ام درمان.. كان بيتنا يحتشد بأشرطة الكاسيت لمختلف الفنانين.. ومن بين تلك الشرائط كنت مزهوا ومعجبا بألبوم غنائي للفنان الكبير عبد الكريم الكابلي .. وأكثر ما استوقفني وقتها في ذلك الالبوم هو حديث الفنان الكابلي باللغة الإنجليزية عن فن الغناء في السودان.. ثم قام بترجمة ما قاله.
- أدهشني كابلي وهو يقدم الفنان بطريقة جديدة ومغايرة.. ولعله انتهج مسلكاً مختلفاً لم يسبقه عليه أحدٌ.. ومنذ ذلك الوقت وانا في حالة جذب لشخصية الكابلي ولغنائيته التي اتّسمت بالهدوء والرقة وابتعدت عن الصخب.. وأصبح عندي نموذجا للفنان الحقيقي.. وتلك هي الصورة الذهنية التي رسمتها للفنان.. لأن الفنان يجب ان يكون فنانا في كل تفاصيله.
- من المؤكد ان الاستاذ عبد الكريم الكابلي قد سعى سعيًا حثيثًا ليصل وضعية الفنان المثقف.. من خلال الاطلاع المكثف والبحث في بطون الكتب.. لأنه يدرك ان الفنان هو حامل مشعل الاستنارة .. وهو قائد ونجم مجتمعي يجب أن يتسلح بالثقافة.. ليقود ويؤثر في الحياة والناس.. حتى يكون محترماً ويستحق كلمة (أستاذ) التي قاتل لأجلها عميد الفن احمد المصطفى.
- حينما استصحب نموذج عبد الكريم وأسقط تجربته على الأجيال الجديدة من الفنانين سيكون البون شاسعاً وواسعاً.. والميزان غير مُعتدلٍ.. لأن المقارنة معدومة تماماً.. حيث معظم او كل فناني اليوم يعانون من انيميا حادة في الثقافة.. كلهم تقريباً عبارة عن مظهر بلا جوهر.. تجدهم يقتنون أغلى البدل وربطات العنق ولكنهم لا يجيدون حتى الحديث.. يفتقدون لأبسط مقومات الفنان الحقيقي المؤهل لأن يقدم تجربة مختلفة.. والمتابع للبرامج الغنائية يدرك حجم الكارثة الثقافية والفنية التي نعاني منها الآن، ومن المؤكد بأننا سنعاني منها مُستقبلاً.
- لا اتحرج ابداً في التصريح في وصفهم (بفنانين طير).. وربما تكون الكلمة قاسية للحد البعيد والوصف جارحا وصادما.. ولكنها الحقيقة بلا مواربة أو تغبيش.
وثقافة الفنان يجب ان تكون شرطاً جازمًا في قانون مجلس المهن الموسيقية، حتى نضمن وطنا معافى من الهردبيس والطرور.