أغنية المصير.. المغني يصدح بالسؤال!!
حينما تلتحم اللازمة الموسيقية مع المفردة والتعبير
مقدمة لا بد منها:
بغير إنه ملحن فارع القامة.. يظل الدكتور أنس العاقب واحداً من أصحاب الكتابات المتجاوزة ذات المحتوى عالي القيمة .. فهو من واقع أنه أكاديمي تمتاز لغته الكتابية بخلطة سحرية ما بين اللغة العلمية الموغلة في البساطة وما بين اللغة الأدبية الرفيعة ذات الأبعاد التحليلية المُدهشة.. ولعل تلك التركيبة العميقة منحته زوايا نظر متعددة حينما يشتغل على الكتابة النقدية التي تمتاز بجودة الاختيار والإبهار في التحليل المنطقي والعقلاني.. ويشرفني في هذا المساحة أن أنشر بعض عطره الفوّاح.. وفي هذا الجزء الثاني من الكولاج السردي يتوغّل البروفيسور أنس العاقب في ثنايا وتفاصيل الأغنية ويكشف بعض التفاصيل الخافية.
كتب: البروفيسور أنس العاقب
الاحتفاظ بالمقدمة الموسيقية:
عبد اللطيف خضر يحتفظ بالمقدمة الموسيقية بكل ما فيها من نحيب وتردد ويأس وتفاؤل تعبيراً بشقاوات الكمنجات لتتوارى، فيأتي صوت إبراهيم عوض أسياناً ملتاثاً حزيناً في طبقة متوسطة معبرة بعمق أسيف وهو يردِّد أمنيات تلاشت فى الماضي البعيد البعيد
(وحديث في الحب) لم تتبق منه سوى دموع تتأسى بالتذكار…
(نحنا في الأيام بقينا قصة ما بتعرف نهاية)
(ابتدت ريدة ومحبة وأصبحت في ذاتا غاية)
يكاد يستعصي عليَّ إدراك المعنى الحقيقي لهذين البيتين … هما بليغان حقاً، ولكن هل يوصف الشاعر هنا ما كان من علاقة بينه ومحبوبه أم بين أحباء بلا عدد.. هنا.. هناك .. أم في كل ركن إنساني… وهي علاقة أقرب ما فيها الاندغام وأبعد ما فيها الحلول في ذات المحبوب … هذا كلام أهل التصوف … إحساسهم … أشواقهم…
الشاعر سيف الدين الدسوقي:
الشاعر سيف الدسوقي، صوفي سليل أسرة صوفية مشهورة ومشهودة.. الحب عند المتصوفة اندغام أو حلول… حرية مطلقة.. وجدٌ مُتناهٍ… تواجد حثيث والشاعر يؤكد ذلك بشعره (ابتدت ريدة وحبة)… الريدة نقاء عاطفي والمحبة طلاقة روحية وكلاهما أقرب للسماع الصوفي ومعراج إلى الحب والعشق والوله والفناء.. وإبراهيم عوض ينتقل بالمعنى إلى ساحل النهايات بصوته الشجي (وأصبحت في ذاتها غاية).. وقبل أن يستفيق المعنى.
عبد اللطيف خضر يتدخّل:
يأمر إبراهيم عوض ألا يتوقف لأن المعنى لا يحتمل توقفاً إلا بما يتيح اللحن لرعشة لازمة موسيقية تشهق بنفس سريع ليكمل الغناء معبراً ومستعيداً ومذكراً (كنت تمنحني السعادة وليَّ) والأوركسترا بأكملها تقاطع متسائلة بأداء موسيقي إيقاعي النبر ليرد عليها إبراهيم عوض، مؤكداً (ليَّ تتفجر عطايا) ولو بأقل القليل (بالهمس.. باللمس.. بالآهات.. بالنظرات.. بالصمت الرهيب) كما جاء في أغنية (لا تكذبي للشاعر الصحفي كامل الشناوي التي لحّنها وغناها محمد عبد الوهاب وردّدها من بعده نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وآخرون.
لمَن يُوجِّه الشاعر هذا الاسترجاع.
لحظة صدق وجيشان:
مهما يكون فلا بد أن هذا الشاعر الصوفي الأحاسيس سيف الدسوقي وفي لحظة صدق وجيشان عاطفي، قد انتبه إلى عالمه الخاص فأراد أن يفضحه بالشعر قبل أن يفتضح أمره، فهو هنا يخص كلامه مباهياً بمحبوبه متوسلاً إليه يذكره بماضيهما الوضئ ليكمل إبراهيم عوض في رقة وعذوبة مردداً (ولما أغرق في دموعي)
الشاعر بكى وكتب .. وعبد اللطيف بكى ولحّن .. وأما إبراهيم عوض فقد أبكى بصوته حتى الكمنجات فرددت معه بهينمة ووجيب، ويتواصل لحن عبد اللطيف خضر ليذرف إبراهيم عوض دموعه الغالية بصوت يتفطر أسىً ونواحاً (بتبكييييييييي) ممتدة في عصب الإحساس، نهناهة وكأنها تبحث عن بكاء كل المحبين، فهي آتية من محب مفئود في الهوى ما عنده سوى الكلمات والغناء والبكاء.. والعذاب..
مناخات اللحن:
الشاعر سيف الدسوقي العاشق المتأمل، اقترب في قصيدة (المصير) من التساؤل حول فلسفة الحياة ذاتها، وكذلك التساؤل حول معنى الوجود الإنساني وكأنّه يُفجِّر في دواخلنا معنى جديداً للعاطفة الإنسانية تماماً مثلما قادنا عبد اللطيف خضر بلحن يتراوح بين الطرب والوجد.. وبين الحياة كثافة والفناء لطافة..
والأسئلة حيرى!! أيها يرتبط بالآخر؟؟!! الماضى بنداءات المستقبل..؟ أم المستقبل ببراءات الماضي..؟ ماذا سيقول لحن عبد اللطيف خضر بعد تكرار المقدمة التي لم يشأ ان يستبدلها لأن الأسئلة لا تزال قائمة ملحاحة وإبراهيم عوض يصدح، (نحنا في ماضينا قوة).. وأيضاً (نحنا في ماضينا قوة).. كيف؟ (قوة تتحدى الصعاب).. حسناً ثم ماذا؟ (تقطع الليل المخيم).. يقيناً (وتمشي في القفر اليباب) عزماً وثقة وإصرارا.
الخواء العاطفي:
اللحن هنا يحثنا ألا نستسلم للخواء العاطفي.. لأن نستمسك بالحب لأجل المحبوب والحبيب ، بل لأجل الحياة ذاتها مهما كان الثمن متمدداً في كل الأزمنة.. هنا يغني إبراهيم عوض بصوت عذب.. راسخ.. واضح النبرات بل حتى اللازمة الموسيقية التحمت مع التعبير تؤكده وتردده في نبرة قصيرة واضحة الرنين.. هنا ماذا أراد الشاعر أن يقول؟ هل هو استراك بالماضي على الحاضر؟ أم استعطاف وتذكير؟ تذكير بماذا؟ بعاطفة كانت؟ بحب كان؟ بماض كان؟ كان.. كان.. كان!!
نعم كان الحب قوة خلاقة.. كان عزماً وعزيمةً.. كان تحدياً ورمزا.. بل كان هو الحياة ذاتها.. وسيظل الحب وسيظل.. فمن منا من لم يكن محباً أو محبوباً؟؟ وكيف إذا كان الحب جميلاً حتى وهو يظلمنا ويعذبنا!! الحب الجميل يجمل الحياة نفسها ويجعلها حياة حقيقية.. متفائلة.. مشرقة.
الشاعر لا يزال في جنون العذاب.. لكن يا سيف الدسوقي!! وآهـ يا عبد اللطيف خضر!!
وآهـ ثم آهـ يا إبراهيم عوض.. (ولسه تايهين لينا مدة) يغني بنفس اللحن وكأنه يردد (ولما أغرق في دموعي).. لينتقل (بنجري من خلف السراب) ويتذكر (بتبكي من قلبك معايا).. وهذا نسج لحني أجاده عبد اللطيف خضر ولفعل غير هذا النسيج لبهتت الألوان والفكرة معاً، ففي المقطع الأسيان (بنجري من خلف السراب) يتداعى صوت إبراهيم عوض لدرجة الهمس والتلاشي مثلما فعل في بداية الغناء بمقطع (ونحنا في عز الشباب) ثم (بنجري من خلف السراب) فهما يستويان لحناً وأداءً ومعنىً ذلك لأنّ الملحن القدير (ود الحاوي) قد فهم معنى المعنى فصوره بعداً جديداً وعمقاً مضافاً.
الأسلوب اللحني يتحرر:
ما أن تبدأ الأوركسترا في ترديد الجملة الأساسية التي ابتدر بها نسيج الأغنية وقالبها وكرّرتها، ظننا أن الملحن عبد اللطيف خضر سيترك لها العنان لتعيدها للمرة الثالثة لكنه لم يفعل، ولكنه فعل.. كيف؟ أعطى الفرصة للأوركسترا لتردد العبارة الأولى من الجملة الأساسية ولكن قبل أن تتمادى مُسترسلة يدفع بالفيولينة في أداء فردي غاب في عالم الإحساس بالأسى والضياع ولكن عندما تناولته آلة أخرى بشَئ من المواساة امتزج فيها الضياع بالأشواق والأمل.
الملحن شاعر يكتب بالنغمات
الموسيقى فقط هي التي تعبر عن الأحاسيس والعواطف الإنساني بسحر النغم وغموضه وقُدرته النافذة لدواخل الإنسان ومكنوناته.. وكأنما أراد الملحن عبد اللطيف خضر أن يقول شعراً ولكن بالنغمات ليفسح المجال لذروة المعنى…