(1)
منذ عدة سنوات أعمل كمنتج برامج.. تلك الرحلة بدأت في قناة الشروق.. ويعود الفضل في دخولي إلى عالم الإنتاج البرامجي للأخ الأكبر (ياسر عوض) المدير الحالي لقناة الخرطوم الفضائية.. حيث كان ياسر وقتها يعمل كمنتج للبرامج في قناة الشروق.. عملت معه كباحث لزمن طويل.. ولعلي بعدها اكتشفت أن (الباحث) هو النقطة المحورية التي يرتكز عليها أي برنامج تلفزيوني أو إذاعي.. ونجاح أي برنامج يرتبط بالضرورة بقدرات الباحث في تقديم بحث منهجي وعلمي وبالضرورة محتشد بالثراء المعلوماتي.
الباحث البرامجي هو من يتحكّم في قيمة البرنامج من حيث المحتوى ودقة المعلومات.. كانت قناة الشروق تهتم بهذا الجانب وتمنحه حقه ومستحقه وقدره.. وبغياب الشروق غابت قيمة الباحث وانحسر دوره لدرجة الغياب الكامل.. وذلك يفسر غياب القيمة الفعلية للبرامج التي تنتج حالياً.. فهي كلها برامج تمتلئ بالفراغ وتحتشد بالثرثرة دون تقديم أي معلومة يُمكن أن يستفيد منها المشاهد أو المُستمع.
(2)
حينما اختلف الفنان عصام محمد نور والفنانة عشة الجبل.. كنت قد كتبت مقالاً بعنوان “عشة الجبل.. حقك علينا”.. وتابعت كل التعليقات حول ذلك المقال في الفيسبوك.. كنت وقتها أبحث عن تعليق ذكي بين تلك التعليقات.. ولكني مع الأسف لم أجد من يتفهم مقصود كلمة “حقك علينا”.. والمقصود ليس بالطبع تطييب الخاطر أو الربت على كتفها ودعم عشة الجبل في الغثاء الذي تروّج أو الوقوف بجانبها ضد عصام محمد نور.. كنت وقتها أعني أن لعشة الجبل حقاً علينا من حيث مناصحتها وتقويم اعوجاج مفاهيمها وتجربتها الغنائية التي بدأت تنداح بشكل سافر.. لأن الواقع حالياً يقول بأنها الآن (نجمة) ومعروفة على نطاق واسع جداً.. تلك هي الحقائق بلا مواربة.. وهي الآن تجاوزت الغناء للتمثيل.. فهي قبل أن تمتلك أدواتها كمغنية اتجهت للتمثيل وكأن الأمر شهوة عابرة.. وكلها بالطبع خطوات غير محسوبة وتفتقر للحصافة والوعي الكبير.
وهذا التخبط يؤشر على نهايات قريبة.. لأن ظواهر مثل عشة هي كفقاعات الصابون لا تعيش طويلاً.
(3)
الراحل المقيم في وجداننا مصطفى سيد أحمد.. ولو لم يكن فنانا حقيقيا لما عاش خالداً عند الناس حتى هذه اللحظة.. سيرته وحكاياته تتجدّد في كل يوم.. ولعل الموقف الفكري لمصطفى سيد أحمد هو العنوان الأبرز له كفنان اختط لنفسه مساراً جديداً وغير معهودٍ.. وفن الغناء عند مصطفى سيد أحمد ليس مجرد لهو وتزجية وقتٍ، وإنما هو قضية إنسانية متكاملة الأركان.. فلذلك من البديهي أن يقول الناس عن مصطفى سيد أحمد بأنه (مفكر) قبل أن يكون (فنانا).. وتلك هي الوصفة السحرية التي اكتشفها مصطفى سيد أحمد وعبر عنها شعرياً ولحنياً.. بأغنيات تتحرك ما بين القلب والعقل.
مصطفى سيد احمد مشروع غنائي ملهم.. يستند على رؤية جمالية كانت هي خلاصة المنتوج العقلي والوجداني لهذا الشعب.
لم يستدرك بعد (مغنواتية)، الجيل الحالي ان مصطفى وضع ضوابط صارمة للفنان الحقيقي على مَرّ التاريخ، وضرورة أن يكون للفنان موقف صارم من العالم الذي يعيش فيه ويظل ناقداً مبيناً لقيم الخير والحق والجمال، كاشفاً لكل أقنعة القبح ومظاهره، مُحرِّضاً على الثورة والتغيير، راسماً معالم الحلم والظلم والظلام.
كان مصطفى فنانا له موقفٌ صارمٌ قبولاً ورفضاً ونقداً وتعريةً، ولذلك فهو غنّى لجملة الناس بما يعبر عن هذا المواقف.