لا يصلح العسكر في الحكم والسياسة أبداً وهم أُس البلاء الذي حدث ولا يزال يحدث في السودان، إذ ليس للعسكر علاقة بالسياسة، فأسلوب حياتهم وتعاملهم لا يُناسب حتى أسرهم وأقاربهم، ناهيك عن دولة تصارع لتصبح مدنية لأكثر من نصف قرن ويحول العسكر بينها وبين ذلك، وفي نفس الوقت لا يستطيعون عسكرة كل مواطني الدولة حتى يتساوى الجميع في حمل السلاح واستخدام كافة أنواعه مما يُوجِد توازن في القوى! وهم بذلك يريدون السيطرة على مقدرات الدولة بجعل المدنيين يعملون بإمرتهم بقوة السلاح بعكس الحكم المدني الذي يستند على الحقوق المكفولة بالدستور والقانون والتشريعات وإجراءات العدالة في التقاضي وكل ما من شأنه أن يبسط الحرية ويأتي بالسلام بطرق السلام وليس عن طريق البندقية والأحقاد والأحقاد المُضادة وقانون الغاب، العسكر وكل الأجهزة الأمنية والشرطية الأخرى موظفون يتقاضون مرتباً نظير عملهم كبقية موظفي الدولة وواجبهم مُقدّسٌ تجاهها، ولكن ليس لهم فضل أكثر من الآخرين في المجالات الأخرى وإن كانت الإنقاذ قد زرعت أو تعمّدت تمرير ذلك وفرضته قسراً، فالواجب إذن يقول بإعادة هيكلة كل العقائد لدى العسكر ما بعد الثورة وتذكيرهم بواجبهم في تحرير الأرض وحماية الحدود وتوفير الأمن للمواطنين وافتدائهم بالروح إن دعت الضرورة وليس العكس، يجب الالتزام بما جاء في الوثيقة الدستورية من تشريعات تمنع منعاً باتاً أي انقلاب عسكري على نظام الحكم المدني الذي اختاره الشعب واحترام ذلك القرار.
ليس سهلاً أبداً حكم الدول وإدارتها بنجاح، وليس كل من وجد نفسه عن طريق الصدفة المحضة أو أتت به رياح الظروف في سدة الحكم أنه صالح لتلك الوظيفة أو ذاك الموقع، وإن صلح فلن يكون من الناجحين، وإن نجح فلن يكون من المُبدعين المُطوِّرين الأذكياء الذين ينقلون المجتمع والدولة نقلة نوعية حضارية علمية فنية سياسية فلسفية دون انحراف أو اعوجاجٍ، والدول لا تُبنى بالصدف والحظوظ والتسول، هناك تخطيط وإرادة واستراتيجيات وصبر وعمل وإخلاص ونكران ذات وصدق وأمانة وتجرد وشفافية وحب.
الكل يعرف أن السودان واحد من الدول الغنية في القارة الأفريقية بمعنى أنه صحيح بدنياً (إن صح التعبير) ولم يمرض قط إلى هذه اللحظة، ونسأل الله تعالى أن تدوم عافيته، ولكن تكمن العلة في الذين يتقافزون على السلطة فيه ويُحيكون المُؤامرات والدسائس ليلاً ونهاراً لا يفترون أبداً ولا يرعوون، فكم أجهضوا من ثورات، وكم وأدوا من أفكار وإصلاحات، وكم أظلموا من طرقات كم وكم وكم…
هؤلاء هم البلاء العظيم الآخر الذي اُبتلي به هذا الوطن، لقد جرّبوا كل شيء ليظلوا حكاماً أو قريبين من الحكم بالرغم من الحضيض الذي أوصلونا إليه، وما زالوا يتحوّرون ويتبدّلون ويتلوّنون بأشكال وأرقام ومحطات وأوزان في كل مرة ليعودوا بثوبٍ وطلاءٍ وزخارفٍ جديدة ويعيدوننا دائماً لنقطة البداية في كل مرة، ويضعوننا أمام خيارين إما أن يحمكوننا ويستبيحون كل شيء أو يعكرون حياتنا ويسممونها بدسائسهم وسوء مكرهم وخبثهم ليستلمها العسكر أو يسلمونها له كيداً في الآخرين وهم مُغتبطون، لا يستسلمون أبداً وأصبحت لديهم سلالات جديدة لا تحس ولا تشعر وليس في وجهها دم، تفعل كل شيء في أي وقت وأمام الجميع دون حياءٍ أو استحياءٍ.
مع أنّهم يُثيرون الغضب من أفعالهم تلك إلا أنّهم مرضى في النهاية ولن يجني السودان وشعبه من ورائهم إلا التخلُّف والجهل والتّردي والخواء، ولن تقوم للسودان قائمة إذا لم يتم تنظيف إدارة الحكم فيه من جذور هؤلاء، فأكثريتهم كيزان وليسوا فلولهم ويأتي بعدهم ضحايا الكيزان ثم الأحزاب والحركات المسلحة وغير المسلحة والمنتفعون من الأوضاع غير المستقرة والهشة المائعة وتجار الفرصة وسماسرة الأزمات.
السودان ما بعد الثورة لن ينفع فيمن يقوده أي شخص حمل سلاحاً ضد الشعب وأمعن فيهم قتلاً وتنكيلاً وتهجيراً داخل الوطن وخارجه أو عذّبهم داخل السجون أو ظلمهم وأخذ حقوقهم وأملاكهم بسبب أنه استولى على السُّلطة بقوة السلاح أو ساعد على ذلك، لا يصلح هؤلاء في إدارة الدولة لا من قريبٍ أو بعيدٍ، لأنهم مرضى في المقام الأول ويحتاجون لعلاج لما قاموا به من أعمال مُجبرين كانوا أم طائعين أو مُتطوِّعين، وكذلك لا ينفع الضحايا الذين مارس معهم النظام القمعي البائد كل الشرور للحكم بعد الثورة لأنّهم أيضاً مرضى لما وقع عليهم ولذويهم من أحداثٍ جسامٍ تم إجبارهم بمُوجبها على حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم. إذن لا يصلح كل حَمَلة السلاح لممارسة الحكم بعد الثورة، لأنّ التأثير النفسي للحرب والمُقاومة لا يزال هو الفاعل في عقول حَمَلة السلاح الظاهرة والباطنة، وما زالت أصداء المعارك الناجحة والفاشلة تدور في عقولهم، وما زالوا متأهبين للقتال والدماء في أي لحظة وأي مكان، وإذا لم يجدوا عدوّاً يُحاربهم، سيختلقون عداوة مع الشعب أو الحكومة أياً كانت لتفريغ تلك الأمراض والعلل والشُّحنات السالبة التي تعرّضوا لها طوال هذه السنوات، عليه فكل هؤلاء يحتاجون لعيادات تأهيليّة نفسياً وعصبياً وجسدياً لإعادتهم ودمجهم في المجتمع بأمانٍ.
فهؤلاء الجنود قد يكونون خطراً حقيقيّاً حتى على أنفسهم وأسرهم وعوائلهم فما بالك ببقية الناس من حولهم. ولا يصلح للحكم أيضاً سودانيو المنافي، فهم يحتاجون لإعادة تأهيل لما بعد الثورة للاندماج في المجتمع المدني دُون مُؤثِّرات نفسية وذهنية وجسدية ولما مروا به من أهوالٍ وتجارب مروعة وتشرد وهوان وهم مُكتنزون بالحسرة والاكتئاب والضجر وكل منغصات الحياة، ومهما ادعوا من كفاءة حقيقية أو غير ذلك، فإنّهم لا يستطيعون أن يُؤسِّسوا لأدب السلام الحقيقي لما بعد الثورة أو إدارة البلد بعيداً عن التجارب المريرة التي استوطنت في دواخلهم وربما ورثوها لأبنائهم.
فلا حمدوك ولا عبد الباري وجبريل ووزير التفكيك وجدي صالح ولا وزيرة التربية ولا مريم المهدي ولا وزير الطاقة والتعدين ولا عرمان ولا عقار ولا عبد الواحد أو مناوي ولا الحلو ولا حلوم تبلدي وتلفون كوكو وكل حَمَلة السلاح شرقاً وغرباً، وكما لم تفلح أو تصلح الوزيرة المكلفة السابقة للمالية هبة محمد علي وهي خير مثال لما يُعتمل في عقلها الباطن عندما قالت بالفترة الانتقامية عوضاً عن الانتقالية، لن يصلح جبريل الذي يبحث عن نافورة أموال لتمويل حزبه.
فترة ما بعد الثورة تحتاج لنفس الشباب الذين قادوا الثورة السلمية النقية التي آمنوا بها ووقفوا أمام آلة البطش الدموية المُتوحِّشة للكيزان وواجهوها بصدورهم ودفعوا حياتهم ثمناً لهذه الحرية، فهم الأولى بإدارة هذا الوطن لإكمال المسيرة وبنفس المُعادلة وذات الشعارات، لأنهم بعيدون عن أيِّ تأثير جانبي عن الهدف الرئيسي وهو رفعة هذا الوطن وللجميع دون استثناء.
بالفعل البندقية لا تصنع إلا سلاماً مُشوّهاً والعسكر لا ينتجون إلا مُجتمعاً ودولة مُمزّقة ومُتشرذمة ومُتناطحة ومُتعادية وخاسرة.