كانت وما زالت وستظل الحوجة المتأججة على الدوام لمناقشة قضايا البعث الثقافي لدى أي أمة من الأمم تتطلع للجديد وتعمل على تحقيق الجديد الذي تتطلع له.. وتبرز تلك الحوجة بشكل واضح واحتدامي لكل ساحات العمل الوطني عندما تعلن الثورة في المجال السياسي والاقتصادي.
ونحن في السودان تحدّثنا كثيراً عن ضرورة إحداث الثورة الثقافية باعتبار أنها ركن جوهري وأساسي في عملية إحداث التغيير المنشود.. ودار حديثٌ أكثر حول مفهوم المثقف ومن هو وما دوره في الحياة العامة.
والاهتمام بهذا الموضوع لم يكن في السودان وحده، وإنما ظل كامل الحضور وبالصورة الملحة في جميع البلدان التي تشابه ظروفها ظروفنا ولا سيما البلدان العربية والأفريقية.. ومنشأ الوقفة الطويلة والاهتمام بهذه القضية واحد.. وهو الإطار الذي حاول الاستعمار أن يضع فيه المتعلم ويحد من قُدرة عطائه وتوظيفه لمعرفته تجاه قضايا أمته، وبالتالي فإن التساؤل القائل هل المتعلم الذي اجتاز العديد من مراحل الدراسة الأكاديمية هو المثقف المعني بتحمُّل أعباء ريادة العمل؟ أم أن هنالك تعريفاً آخر للمثقف؟
والمعنى اللغوي لكلمة مثقف واضح، إذ أننا نقول الذي يثقف “الرمح أو السيف بجعلهما شديدي الحدة والفعالية ومن هنا قد يكون الإنسان متعلماً كما يكون السيف.. سيف ولكن العبرة الفعالية.. وإذا كانت فعالية “الرمح أو السيف” في الحدة.. تكون فعالية المتعلم في مقدرته على تحمُّل هموم الحياة.. وهموم الناس والعمل على مساعدتهم في تحريك حياتهم إلى الأحسن على الدوام.. وعند مطلع كل شمس يومٍ جديدٍ، نجد أنفسنا في أشد الحوجة إلى طاقات المتعلمين المثقفين فهم جنود هذه المرحلة وحداتها.
وإن كان هذا الموضوع يسكن في ذهني على الدوام، إلا أن ضرورة طرحه للمناقشة تُجدِّدها المناسبات الثقافية والاجتماعية، وتُجدِّدها حركة التغيير التي تشهدها أرض السودان على مدى الست سنوات الماضية بمدها وجزرها.. سلبها وإيجابها.. وهي عُمر الثورة وعمر ما رُفع من شعارات للتغيير وما حدث بالفعل من تغييرٍ.
بمناسبة المؤتمر الأدبي الذي عُقد على أرض المليون شهيد “الجزائر” مؤخراً، كنت أناقش بعض الإخوة والمناقشة احتدت وتشعّبت.. بدأت بالتساؤل حول فعالية مثل هذه التجمعات وما دور الفن والشعر في الحياة، وانتهيت عند حتمية وحدة الحياة ومُتطلباتها واستحالة الفصل بين مقومات الحياة، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، كما ليس بالفن وحده يحيا الإنسان.
وكان جوهر الحديث حول الموقف من القضايا السياسية والاجتماعية بالنسبة للمتعلمين السودانيين بصورة خاصة والعرب بصورة عامة، وأثر الأحداث السياسية المحلية والعالمية عليهم وفي مواقعهم ومواقفهم سواء أكانوا مُبدعين وخلاقين أو كانوا علماء ومهنيين.
أهل السودان الذين يسكنون قُطراً قاري المساحة ينفرد بنماذج متباينة من حالات الوجود الريفي والعشائري.. والمديني وشبه المديني.. وما تفرضه هذه التبايُنات من سلوك تجاه العمل أو تجاه الحياة الاجتماعية يحتاجون إلى ثورة ثقافية تنفجر من خلال المطروح الذي يستوجب خلق القاعدة الفاعلة لتغيير الإنسان بالصورة الجديدة التي تلائم فهمنا التقدُّمي للثورة الثقافية على الصعيد العالمي.. وعلى الصعيد الإقليمي.. وعلى الصعيد المحلي، وبذلك تكون المهمة الأولى هي العمل على تحويل المتعلمين أو أكبر قطاع منهم إلى مثقفين حتى يستطيعوا إحداث الثورة الثقافية، وبالتالي تضطرد عملية نجاح الخُطط والبرامج الاقتصادية والسياسية، إذ يستحيل أن تسرع الخُطى في مجال التنمية بالصورة المُرضية لتطلعنا، والإنسان السوداني بحاله الأولى أي بسلوكه القبلي والعشائري أو المفهوم السلبي للتعليم بحسبانه وسيلة للوظيفة والحياة.. أو الترحال خارج البلاد.. أو الموقف المتعالي الفاقد لكل ما يحدث.
ولكن لا نذهب بعيداً.. ولا ندخل في متاهات جدل كثيرة، علينا أن نتأمّل ممارسات قطاعات كبيرة من متعلمينا حيال قضايا كبيرة تهم الوطن ومسار الحياة فيه. نستطيع أن نُوجز هذه المُمارسات في الصفة التي يتحدث بها بعضهم سواء أكان من منطلق مذهبي معين أو من لا منطلق وهي صفة “المُثقّف العارف والمُدرك لبواطن الأمور والمُثقّف في نفس الوقت”، وتنتهي هذه المُمارسة عند هذا الحد.. حد حصر السلبيات و”النقنقة” حولها وبعدها الانصراف لمباهج الحياة الأخرى.
فقضايا الجماهير كلام فارغ، ومُناقشة هؤلاء بالرغم مما يسببونه من عراقيل في طريق المضي، إلا أنّ مُناقشتهم ضرورة.. تناقش موقفهم.. مَن الذي يُنظِّم الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في السودان.. وتناقش موقعهم الذي يتحدّثون منه والكيفية التي يتحدثون بها. فحياتنا كلها تحتاج إلى وقفات طويلة في كل جوانبها، والثورة الثقافية نريد أن يحمل لواءها في البدء المثقف المعطاء.. وبداية رفع اللواء لا تكون ذات جدوى إلا إذا واكبتها عملية التفكير بالصوت المُرتفع المُلتزم.. والإحساس بما ينتظم الحياة السودانية.. فالذين يرتاحون للوقوف على هوامش المسيرة ويتباكون على الأخلاق والحريات الضائعة.. ويكثرون من الثرثرة حول سلبيات المُمارسات، عليهم أولاً أن يناقشوا ذواتهم من حقيقة أن الكثير من المتعلمين في البلدان النامية والبلدان الحديثة الاستقلال والسودان من بينها، مُستعمرون حضارياً.. وهذا أبشع أنواع الاستعمار، وبالتالي عليهم أولاً أن يقودوا معركة تحرير ذواتهم من عُقدة التعالي.. واحتقار قضايا الجماهير وعُقد التمييز وعبادة حضارة الغير..
وبداهةً أن تغيير الواقع السياسي.. والاجتماعي يؤديان بالضرورة إلى تغيير وسائل التعبير الفني وخلافه من أنواع التغيير، فالمسألة الاجتماعية بكل جوانبها تمثل حجر الزاوية بحُزنها وفرحها.. حُبها وكرهها.. سعادتها وشقائها, نجاحها وإخفاقها.. والحقيقة الأكبر هي أن السياسة ليست كالفن، والنظرة العامة لمقومات الحياة ليست في منزلة الإبداع، ولكن الشئ المطلوب هو الوحدة بين السياسة والإبداع التوافق بين الشكل والمضمون، وبمعنى آخر بين المُحتوى الثوري وبين أرفع مُستوى مُمكن من الإبداع الفني، فالأعمال الأدبية الخالية من اللمسات الفنية لا أثر لها مهما كانت تقدمية.. فالمطلوب ليس أن تكون الأصوات العالية واعظة ومليئة بالشعارات.. ولا المطلوب قصائد خطابية نُخيف بها الآخرين. ولكن الميلاد الجديد يحتاج إلى إنسان متطور وإلى متعلم مثقف يؤمن بأن ممارسة الحياة بالمسؤولية والعطاء زاد الرحلة إلى الحقيقة المشعة، وأن النقاش والحوار الهاديء هما وحدهما السبيل للمعرفة.. وإن العلم هو الحرية في إطارها السليم هي الحماية الكاملة للإنسان وقيمته في الحياة الكريمة.
ونحن في معركتنا الحضارية والمصيرية نريد مثقفين من كل مجالات الحياة السياسية والفنية يخدمون القضية ولا يوظفون القضية لخدمة ذواتهم.. بمعنى آخر نُريد أن يكون وجدانهم متّقداً على الدوام.. والوجدان المُتّقد يسع كل هموم الناس وآمالهم وأمانيهم في الحياة الطيبة الكريمة المشعة.. وعلى كُلٍّ أرى أن القضية ما زالت مطروحة للنقاش والمُفاكرة هذه دعوة للآخرين.. شكراً.
•وجهة نظر
حول مهرجان الأغنية
أين موقع ود الفكي من الرواد؟؟
الأخت الفضلى الأديبة الأستاذة آمال عباس – المحترمة
لك تحياتي وبعد،،،
استميحك في أن أكتب إلى صفحتك اللطيفة خفيفة الظل، والكتابة إليها أمنية رغبتني فيها شتى الأسباب، منها اسم الصفحة “من العمق العاشر” وأنا أكتب إليك من العمق العاشر، ومنها أن الكلمة تخص الأدب وأنت أديبة رائدة، ومنها أنها تخص الشعر الشعبي وأنت تتذوقين الشعر الشعبي وتعشقين الكلمة الجميلة.. وسبب أخير عندما لقيتك لقاءً عابراً في مركز اتحاد المعلمين العالي للبنات بالخرطوم بحري وأنتِ تودين أن تقدمي محاضرة لأخواتك وتلميذاتنا في ذلك المركز.. وتطرّقت معك إلى حديث عن المهرجان والتكريم، وأن هناك من نسي وكان لا ينبغي أن ينسى وهو الفنان الكبير “ود الفكي” واسمه بالكامل محمد الفكي بابكر وهو والد الزميل الأستاذ مصطفى محمد الفكي المبعوث بجمهورية ليبيا – رَدّ الله غربته.. وهو من منطقة كبوشية ومن أهلنا الجعليين، وهو أول من تغنى في مطلع هذا القرن وكان الغناء قبل ود الفكي كلمات مبتذلة سوقية تغنيها بعض النساء ممن يسمين بالحكّامات “ما يسمى بأغاني الدهلة”، والذي نود أن نقوله إن ود الفكي أول من غنى من الرجال في هذه المنطقة، إذن فهو رائد الغناء السوداني، ولقد حدثني عنه الفنان الكبير عبد الله الماحي أطال الله عمره إنه عندما جاء الخرطوم عام 1918م لم يجد فيها غير ود الفكي بل وجده في أعظم أيامه شهرة، فإذا كان ود الفكي هو أستاذ عبد الله الماحي، فهو بالتالي أستاذ لكل من جاء بعد ذلك من فنانينا العظام أمثال سرور وكرومة والأمين برهان ومن جاء بعدهم، ولعل سؤالاً يقفز إلى الذهن يلح في الإجابة، فإن كان ود الفكي هو أستاذ الفن الغنائي السوداني وهو أول رُوّاده من الرجال بمنطقة الخرطوم في مطلع هذا القرن وغرته، إذن فشعراؤه الذين تغنى بكلماتهم هم أصحاب الريادة والسبق والأستاذية على شعراء الحقيبة، وهذا ما يعترف به كبار شعراء الحقيبة من الأحياء أطال الله أعمارهم، فمن هم هؤلاء الشعراء الذين تغنى بكلماتهم ود الفكي وهم أساتذة شعراء الحقيبة في هذا المجال نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
1/ الشاعر ود عبد الله المسلمابي من كبوشية البجراوية ومن كلماته الشهيرة:
واعدتهن بالسفر من فرقهن عقلي فر
نوم عيني البقى لي سهر
الراوي سفل هبر
ابعد وقطع الخبر
انحل عضاي وما جبر
يا ام دغمة قلبي اندبر
شرع فوق قافن يتم
الجداد والقدم
قول لقاريء العلم
من غيرهن الدين ما يتم
2/ الشاعر ود بري الزيدابي من منطقة الزيداب وهم فرع من الجعليين ومن شعره:
أرح لبلوده
نار أم خديد في الجوف موقوده
قوم يا عشوق
باهي الوريد نايرات خدوده
طبي وداوي ليمه وشهوده
شوفك شوى لنومي قلي
انت المولى فوق البنات قدرك علي
فلق على عقلي استخلى
سواك الله القمر المجلى
3/ الشاعر البشير ود الطاش من المتمة وهو من الجعليين ومن شعره:
عني أم خدود زاهل الفكر والله
أسهرني وبقيت ليلي ونهاري بلاهي
اشملي بالنظر يا أم خد عليك الله
ريداً غير دنس ومحبة لله
4/ الشاعر ود سالم الفادني من نفس المنطقة “كبوشية” ومن شعره قال:
قال لي أبوك يا اللمين
نانديه حورا ذات عين
فاقت ليهم العين
مي حيكم يا اللمين
لوليه للغائصين
فرعك مروي ودهين جناح الليل البهيم
من ذكر الحور يا نديم القلب والأفكار تهيم
5/ الشاعر الدسوقي وهو من نفس المنطقة ويقال إنه مات بالعشق ومن شعره:
سكرتير الغرام في مكتبن ساجني
أو لجنون ليلى ما ضاق العشر في جني
نشاب عقلتن وسط الضلوع يا جنى
سلم أمركم لله يا الراجني
هذا شعر قصدت به فقط أن أعطي القاريء أنموذجاً منه ولديّ منه أكثر من ذلك، وهو شعر لا يحتاج مني لتعليق، ففيه الأصالة والإشراق والعفة وصدق الشعور وحرارة العاطفة والشوق الملتهب.. هؤلاء هم الذين أثروا حياتنا بحب الجمال والخير والحق والنُّبل والعفة والوفاء وتلك لعمري هي قيم أمتنا العملاقة وهذا هو الأدب الأصيل الذي يعكس وجه الأمة وأخلاقها، وحسبنا أن نتأمّل قول ود عبد الله:
قول لقارئ العلم
من غيرهن الدين ما بتم
واكتفي بهذا القدر، فإن رأيت يا أختنا آمال ما يستحق النشر في هذا الذي كتبت، فإني أقول لكِ اختيار عنوان مناسب له وإلا فحسبي أن بلغتك أن هذا ما أحس به وهو شئ من تاريخ فنّنا ينبغي ألا يُهمل، ولك ختاماً جزيل شكري وأرجو أن ألقاك في مقالات أُخر على صفحتك الغَرّاء والسّلام عليك وعلى قراء صفحتك وعلى عُشّاق تراثنا الحبيب في كل جميل.
حمد عثمان الزبير
معلم بمدرسة الشعب العليا للبنين
بالخرطوم بحري
مقطع شعر:
أغنية للاتحاد الاشتراكي العربي للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وأهديها إلى الاتحاد الاشتراكي السوداني:
كن لي عائلة
يا حصن الفلاحين الفقراء
فأنا لا أسرة لي
إلا الإنسان بلا أسماء
كن لي عاصمة
يا بلد العُمّال الغُرباء
فأنا لا موطن لي
منذ تركت الأرض الخضراء
كن لي ملحمة أرويها للبسطاء
نركب فيها الخيل ونفتح مُدن الحب
ونُحرِّر فيها السجناء
كن لي سيفاً وحصاناً ونشيداً
لو ظهروا في الليل يُنادون الأسماء
ويسوقون إلى الموت الشعراء
يا أبناء الوطن الشرفاء
أما نسلم على الوطن الآن
فلتكن القامات الصلبة سارية العالي
ولتكن الأعين أنجمه الخضراء
مربع شعر:
هذه المَرّة نقف مع الشاعر الفارسي المشهور عمر الخيام في أحد مربعاته الشعرية:
عاشر من الناس كبار العقول
وجانب الجُهّال أهل الفُضُول
وأشرب نقيع السم من عاقل
وأسكب على الأرض دواء الجهول
من أمثالنا:
زريبتك ما تشلِّعها بإيدك.