منى أبوزيد تكتب : مجتمع انتقائي..!
“الحياد تجاه الطرف الآخر هي أول خطوة لمساعدته”.. د. سمية الناصر..!
أن تَحكُم دولةً متراميةَ الأطراف أو أن تكون لك القَوامة على أسرةٍ أفرادُها بِضْعةُ أشخاص، كلاهما حالان تشتركان في أوجهٍ عديدةٍ للشبه، أولها الاستعداد لتحمُّل المسؤولية وأولاها توافر الأهلية للقيام بأعباء تلك المسؤولية. لكن مفهوم الرُّشد “الذي يُلَخِّصه الشرع في الأهلية لاكتساب الحقوق والمقدرة على تحمُّل الواجبات” يؤطره ذات المجتمع الذي يحتكم إلى الشرع في معظم قضاياه بإطارٍ عُرفيٍ بليد، مفاده تقديم الرجل في الحصول على بعض الحقوق من جهة، وتأخيره في بعض الأحكام التي تستوجب العقاب من جهةٍ أخرى..!
قبل أيام، تابعتُ نقاشاً ساخناً بين بعض المثقفين، بعد انتشار مقطع فيديو لمراهقة سودانية – تنتمي من حيث التربية والواقع المعيش إلى مجتمع أوروبي مُوازٍ – كانت تشكو حالها مع بعض جيرانها المحليين الذين ينتقدون سلوكها المُعلن في الوقت الذي يقترف فيه أبناؤهم في الخفاء ما يَبُزُّ سلوكها سوءاً. كانت الفتاة تتحدث مع صديقها وهي تلف ورقة بيضاء قبل أن تقوم ببلل أطرافها ببعض اللعاب، والمفهوم من سياق حديثها ومن استنكار المعلقين هو أنها كانت تلف سيجارة “ممنوعة”. أما سبب انتشار المقطع فقد كان قيام ذلك الوغد الذي كانت تُحادثه بتسريبه..!
وبما أن الاحتكاك بمجتمع الجامعات – من خلال عملي بإحداها – قد أفادني كثيراً في الإلمام بمعظم هذه الظواهر التي يتشنَّج البعض في تكذيب انتشارها، فقد انتهجتُ الحياد والتزمتُ الصمت ولم أعلِّق. ولعل أبرز أسباب انتشار بعض الظواهر هو ذلك الهروع المجتمعي الكبير نحو التحصيل الأكاديمي للأبناء على حساب التربية، وتوهم علاقة طردية مُفترضة بين المسار الدراسي الجيد للأبناء وحسن سلوكهم..!
لذا إن كُنت والداً يقرأ هذا المقال فدعني أؤكد لك – من خلال خبرتي العملية – أن لهؤلاء الشباب عالمهم الخاص الذي يشاركك التربية وينافسك في التعليم. فضلاً عن أن العلاقة الوحيدة الصحيحة هي تلك العلاقة العكسية بين درجة قربك العاطفي منهم – وثبات ما تغرسه فيهم من قيم وفضائل – ومدى استعدادهم للولوغ في مُوبقات ذلك العالم الخاص. لكن هذا – على كل حال – ليس موضوع المقال..!
الذي استوقفني في مشهد الفتاة المذكورة أعلاه – والذي يستوقفني عادةً في كل شأن يظهر جانباً من سلوك البشر الخطائين في هذا المجتمع – هو إخلاص العقل الجمعي في تبرئة الرجل، واجتهاده الشديد في تجريم المرأة، بينما الشرع نفسه لا يفعل. إذ يساوي الشرع بين الرجل والمرأة في كلا الحالين، فالخطأ هو الخطأ، والجنحة هي الجنحة، والجريمة هي الجريمة، والرذيلة هي الرذيلة، بحسب شرع الله الذي خلق الذكر والأنثى وساوى بينهما في المسؤولية الأخلاقية والعقوبة الجنائية، والجزاء في الآخرة..!
دعك من ظلم المرأة، دعك من قهرها، دعك من تحقيرها، دعك من الضرر الواقع عليها جرّاء هذا النوع من التمييز على أساس النوع – دعك من كل هذا – وتأمّل في خطورة هذا التمييز الجائر على الرجل نفسه. تأمّل في كم التعاسة ومقدار الخراب الذي يحيق بحياة زوجٍ لا يُمارس قوامته على زوجته وفقاً للشرع بل وفقاً للعرف الذي تربى عليه. العرف الذي تُعاقب بمُوجبه أخته على بعض ما يفعله دون أدنى عقاب. ولذلك فهو يتوقع من زوجته أن تتجاوز عن أخطائه ونزواته كما كان يفعل والداه..!
والنتيجة بيوت هَشَّة، وأبواب مُغلقة على علاقات مُحتَقِنة، وأمهات وآباء تُعساء يتَملَّقون المجتمع بالمظاهر، ويَتَّقُون شرور أحكامه بالإصرار على تَفوُّق الأبناء. ومجتمع انتقائي في دولة مُفكَّكة، تتعاقَب عليها حكومات فاشلة، وحُكَّام مُدَّعين، ومسؤولين أدعياء..!