أغنية المصير.. المغني يصدح بالسؤال!! عبد اللطيف خضر فهم المعنى الحقيقي (الجواني) لقصيدة الشاعر سيف الدسوقي!!
كولاج سردي (1)
مقدمة لابد منها:
بغير أنه ملحن فارع القامة.. يظل الدكتور أنس العاقب واحداً من أصحاب الكتابات المتجاوزة ذات المحتوى عالي القيمة.. فهو من واقع أنه أكاديمي، تمتاز لغته الكتابية بخلطة سحرية ما بين اللغة العلمية المُوغلة في البساطة، وما بين اللغة الأدبية الرفيعة ذات الأبعاد التحليلية المُدهشة .. ولعل تلك التركيبة العميقة منحته زوايا نظر مُتعدِّدة حينما يشتغل على الكتابة النقدية التي تمتاز بجودة الاختيار والإبهار في التحليل المنطقي والعقلاني.. ويشرفني في هذا المساحة أن أنشر بعض عطرِهِ الفوّاح.
(1)
كتب: بروفيسور أنس العاقب
ليه بنهرب من مصيرنا؟
سؤال؟ نعم .. وسؤال صعب!
مَن بمقدوره الهرب من مصيره ؟
والهروب إلى أين ؟ وكيف ولماذا ؟
هل نحن بلا مصائر تحكمنا وتتحكّم فينا ؟
كيف إذن ستكون الحياة ؟ وما معنى المستقبل ؟
وكيف بدونه يكون التفاؤل.. والحُزن.. والحُب.. والخيبة والعذاب؟
مَن الذي يهرب؟ يهرب مِمّن؟ ويهرب لمن؟
وفي الحب والعشق.. هل نهرب من بداية النهاية خوفاً ؟ أم يأساً من تربص النهاية بنا؟
الشاعر يكلمه الشعر..!!
الشاعر كثيراً ما يفصح بكل وضوح حتى حين تستهويه البلاغة أو يستغرقه الغموض.. نعم.. ذلك لأن الشاعر يكتب بعصب الحياة المغموس في مداد الأحاسيس الإنسانية.. نعم.. لأنه عندما يكتب الشعر فهو ينسى الزمان والمكان، بل حتى الوجود الذي لا يتنفّس شهيقاً وزفيراً وإنما أسىً ودموعاً… وفرحاً ما!!!
(2)
نعم .. لأن الحزن يؤكد إنسانية الإنسان الشفيفة الصافية وهي التي بثها الله في تلك الأنفس المتقدة بنار السؤال الأزلي….. لماذا ….. لماذا ؟؟؟
ثم هل نحن في حقيقة أمرنا نهرب من مصائرنا أم نستسلم لها ؟؟ ويظل السؤال يتردد وإن لم نردده …….لماذا؟ الأستاذ الشاعر الجميل النبيل سيف الدسوقي وقف مليًا ثم أرسل نظرة في الأفق اللا متناهي وقبل أن تغرب شمس أحزانه لتشرق بعذاباته، التفت إلى الواقع متسائلًا بأسى..
ليه بنهرب من مصيرنا …. ليه؟؟؟ لماذا؟ لماذا؟ ثم إذا هربنا من ذاك المصير فإن مصيرنا سيؤول إلى العذاب مافي ذلك شك.
ولكن لماذا نختار العذاب هربًا من مصائرنا؟؟؟ وقبل أن نستفيق من هذه الأسئلة الحيرى التي تتردد وكأنها صدى لنداء أقدارنا، يعود لنا الشاعر بصورة أخرى يخص فيها بالسؤال شخصًا ما.
(3)
ليه تقول ليْ انتهينا ؟
هل هو المحبوب ؟ ممكن ..
هل هو صديق ؟ ربما ..
أم لعله إنسان مجهول ؟ محتمل ..
وحالما يكتمل المقطع الشعري (ونحنا في عز الشباب) ونحن نتساءل ليه؟ ليه؟ فبمثل ما انفعل الشاعر انفعلنا نحن..!!
المغني يصدح بالسؤال.. هل سيظل السؤال موجهاً لنا جميعاً ونحن نستمع إلى إبراهيم عوض يفاجئنا بصوته الشجي القوي الواضح النبرات وكأنه قادم من خلف غلالات التساؤل والحيرة…..!! (ليه بنهرب من مصيرنا؟)
يكررها مرتين تفصل بينهما لازمة موسيقية قصيرة تؤكد معنى التساؤل لتنعش فينا شيئا من عتاب حزين.. ليستطرد إبراهيم عوض متوجعاً.. مستغرباً.. متحيراً.. (ونقضي أيامنا في عذاب).. (ليه تقول لي انتهينا ونحنا في عز الشباب… عز الشباب) هنا ينقطع نفس التساؤل الحائر ليذوب فيه صوت المغني.. ثم ماذا بعد…؟
المعنى يستغرق الملحن:
يا سلام …! الأستاذ عبد اللطيف خضر فهم المعنى الحقيقي (الجواني) لقصيدة الشاعر سيف الدسوقي فنفذ بملكة التلحين الواعية إلى ذلك المعنى الذي يستدرج إليه الموسيقى بسحر الغموض الأخّاذ وبجميل الوضوح المتمنع…
(3)
الاندغام:
عبد اللطيف خضر وهو يقوم بتلحين قصيدة (المصير) كلمةً كلمةً ومقطعاً مقطعاً كان كمن يتلبس صوت إبراهيم عوض أو ربما كان يلحنها بصوته لصوته، لأن صوت إبراهيم عوض يتمتع بخصائص تُفَرِّدُه عن بقية الأصوات الغنائية الأخرى (الجميلةِ طبعا) وذلك منذ اقتحامه ساحة الغناء قبل عقود خلت…
صوته واسع المدى يتحكم به إبراهيم عوض من إرساله بسلاسة أنى شاء صعودا وكيفما يشاء هبوطاً وفي القفزات والركوز (وهو الاستقرار) وكما تلك القدرة المتناهية على التطريب ولذلك سيظل صوت إبراهيم عوض من فصيلة الأصوات النادرة المسيطرة التي تفرض على المستمع الانتباه والمتابعة بشغف أو على الأقل الانتباه باهتمام إيجابي وليس أدل على ذلك من أن صوت إبراهيم عوض اندغم في شخصية إبراهيم عوض فشكّلا معًا نسيجًا من طراز فريد ونادر…
(4)
نعود لعبد اللطيف خضر (ود الحاوي) الملحن الباهر العازف الماهر، لنستجلي معه كيف فكر وقدر في وضع مقدمة موسيقية يبتدر بها هذا التساؤل الضخم المحير الذي فجّره الشاعر الكبير سيف الدين الدسوقي (ليه بنهرب من مصيرنا؟)
أراد الملحن أن يؤلف جملة لحنية واحدة تتقلب وتتردد في عدة أشكال موسيقية … مولولة … متقطعة… متمددة… حانية في لطف حميم ومتمردة في أسى رهيف ولذلك بدأت المقدمة بنغمة ممتدة تستوي في تنغيمها مع مدلول كلمة (ليه) لتأتي هكذا لو امعنا التفكير وأصخنا السمع.. (ليييييييييه ليه ليه ليه) ثم تداعي الموسيقى بالتساؤل والحيرة ولينطلق صوت إبراهيم عوض عالياً.. صادعاً صادحاً بحجم التساؤل فكأنما السؤال نفسه قادم من ضباب الزمن وتخوم الحياة وقد انبجس من عنفوان اللحظة الإنسانية (ليه بنهرب من مصيرنا)… هو مصيرنا كلنا إذن.. ويا لها من مصائر…!!!!
(5)
هل قرأ أحد منا في كف الحياة كيف سيكون مصيره؟ ولماذا ؟؟!!!
عبد اللطيف خضر يحتفظ بالمقدمة الموسيقية بكل ما فيها من نحيب وتردد ويأس وتفاؤل تعبيراً بشقاوات الكمنجات لتتوارى فيأتي صوت إبراهيم عوض أسياناً ملتاثاً حزيناً في طبقة متوسطة معبرة بعمق أسيف وهو يردد أمنيات تلاشت في الماضي البعيد البعيد
(وحديث في الحب) لم تتبق منه سوى دموع تتأسى بالتذكار…
(نحنا في الأيام بقينا قصة ما بتعرف نهاية)
(ابتدت ريدة ومحبة وأصبحت في ذاتا غاية)