في حوار بتلفزيون السودان معمول بعناية، عرض ياسر عرمان مستشار رئيس الوزراء السياسي على ما أسماهم الإسلاميين المؤمنين بالديمقراطية، خرائط تعامل جديدة بشرط تخليهم عن حزب المؤتمر الوطني حينها ليس لديهم مشكلة معهم ويمكن التعامل معهم.. وعلى الرغم من أنه ليس في الأفق وجود رؤية جمعية لإحداث تفاهمات مع مثل هذا التيار من تيارات الحكومة الانتقالية حتى تتضح ملامح إدارة المطلوب بشكل دقيق وتجيب على العديد من الأسئلة والجدل الداخلي، التي بدأت تتّسع حول هذه النقطة تحديداً ومعروفة من أين يستمد ياسر عرمان جرأته للتحدث في شؤون الإسلاميين دون الرد المُباشر عليه بما يشير إلى التباسات وشكوك عن وجود دائرة صغيرة داخل الإسلاميين ترسل وريقات ورسائل إمكانية التفاهمات تخوفاً من خطاب الحظر والمنع المصنوع بقوة الثورة والانقلاب العسكري، لكن ما يلفت النظر ويُثير الأسف، إن تصريحات عرمان الملغومة تجد قبولاً لدى البعض من الإسلاميين، سيما الذين انطلت عليهم فرية عدم صلاحية المؤتمر الوطني لهذه المرحلة ويجب تحويله إلى مكب نفايات سياسية دون النظر إلى أسباب انهيار تجارب الإسلاميين في بعض الدول العربية بعد ما رقص بعضهم وتماهى مع معزوفات حلم العلمانيين الخداع، فخيالهم المثالي قد صوّر لهم أن هذه المنطقة يمكن أن يلعبوا فيها، وهذا المنهج يمكن أن يتعايشوا معه رغم أنهم يتعرضون لتجريف سياسي يومي وفصل تعسفي من المؤسسات بصورة مستمرة كتوابع لمنهج الإبعاد الكلي التدريجي الذي تدور به خيالات ياسر عرمان وأمثاله من ذيول اليسار الحائر، الذين يُسيطرون على الحكومة الانتقالية ويُحدِّدون بوصلة عقلها السياسي.
لم تُخطئ عين المراقبين هذه الأيام وهي تُتابع تحركات المجموعة اليسارية بقيادة ياسر عرمان المحمومة بخصوص التعامل مع الإسلاميين وضرورة خداعهم بخطاب سياسي مرتبك ومتغير، وهي تصف هذا السلوك في أقرب تفسيراته إلى الحقيقة أنه حراكٌ لم يخرج من تشابكات سيناريوهات المُعادلات السياسية التي أخرجت الإسلاميين من دائرة الفعل والتأثير السياسي في تونس والمغرب ومصر، وكان الإسلاميون في تلك الدول قد جذبوا إليهم الجمهور والشعوب بخطاب مقبول سياسياً واجتماعياً، ولكن سرعان ما تمت خدعتهم وقيادتهم بخطاب أوصلهم إلى حالة انسداد خطيرة وإحطاتهم بأزمات تجاوزت شكل الأزمات الروتينية التي كانت تُعانيها تلك الشعوب.. ولذلك يتوجّب على الإسلاميين في السودان قراءة وتحليل طريقة مجموعة الغنوشي في تونس وإسلاميي المغرب حتى يستشعروا حجم مخاطر خطاب ياسر عرمان التي تُحيط بهم وتُهدِّد بقاءهم بقوة القوى الناعمة (الإعلام ـ الأدب والثقافة ـ التعليم والشباب والرياضة) بعد ما أسقطوا نظامهم الحاكم في البدء بقوة الغضب الشعبي وتوالي الأزمات عليهم بسرعة غير مسبوقة.. إنّ من حُسن حظي أنني حضرت أول مؤتمر عام علني لحركة النهضة في تونس بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي وهو المؤتمر التاسع بعد ما عقدت ثمانية مؤتمرات سرية كان ذلك عام 2012، وكنت وقتها ذهبت إلى تونس لحضور مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب، وبفضول الصحفي حرصت على حضور مؤتمر حركة النهضة الذي انعقد بإستاد رادس الذي يسع (120) ألف شخص، وكان مؤتمراً مهيباً استخدم راشد الغنوشي كل مهاراته لتقديم مشروع سياسي مُقنع لكل التوانسة، ومعلوم أن الغنوشي قد انضم للتيار الإسلامي بعد تجربة مع القوميين العرب كانت خلال إقامته في مصر، أُعجب الغنوشي بالتوجه الناصري وتشبّع به وكان قومياً ناصرياً، يرى ضرورة توحيد الفكر الناصري مع التيارات القومية الأخرى مثل حزب البعث، وحمل معه هذا الإعجاب إلى سوريا، لكن لم يستمر معه طويلاً، حيث نأى الغنوشي بنفسه عن الانتماء لأيِّ توجُّه سياسي حتى عودته إلى تونس في أواخر ستينيات القرن العشرين، وكان بورقيبة يعمل آنذاك على دعم التوجُّه الإسلامي لمُواجهة المد اليساري والماركسي. وفي عام 1970، انضم الغنوشي إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم، بجانب عبد الفتاح مورو وعدد من الشخصيات التي أصبحت رموزاً سياسية في حركة النهضة لاحقاً وعملت هذه المجموعة على تقديم دروس وندوات في المدارس والجامعات والمساجد.. كان واضحاً في ذلك المؤتمر أن الغنوشي بعد تجربة معارضة طويلة قد استدعى تجربته مع القوميين العرب واستخدمها في جمع أهل تونس في مشروع وطني جامع لم يستثن تياراً أو فكراً، وأذكر بعد الجلسة الافتتاحية، أمسك الغنوشي بالمايك وطلب مقابلة الوفد السوداني برئاسة الراحل شيخ الزبير أحمد الحسن بصالون الضيافة، فدخلت الصالون مع الوفد وكان أول سؤال مباشر من الغنوشي للوفد: ماذا رأيتم في مؤتمرنا هذا..? بعد صمت قصير رد شيخ الزبير: لقد رأينا تونس الدولة..? في إشارة إلى أننا لم نر حركة النهضة بخصوصيتها الإسلامية المحافظة.. كان رد الغنوشي: نعم قصدنا أن تروا تونس، وذكر أن التحول جاء نتيجة قراءة لمبررات ضغوط الغرب على الحركات الإسلامية ومراعاة لخصوصية تونس، ولذلك قال إنه كان محتاراً بعد سقوط نظام بن علي كيف يدخلون على مجتمع تونس وبعد مناقشة عاصفة مع قواعدهم والاستفادة من ورقة سلّمها له الدكتور ـ حسن الترابي قبل أكثر من عشرين عاماً تتعلّق بالحريات العامة وكيفية التعامل مع مجتمع مثل مجتمع تونس، بعد كل ذلك توصل لهذا المشروع الذي خلاله وصلوا لتلك الأغلبية الحاكمة التي مكّنتهم من الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان ورئاسته ورئاسة حكومات المحليات، مشيراً إلى أن ما يرونه من تدافع وانحياز شعبي وسياسي غير مسبوق.. مع ذلك تفاجأ الجميع بانقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد، على النهضة رغم أن بعض المحللين يرون أن أيامه محدودة ولن يجد دعماً وغطاءً خارجياً، غير أن مؤشر ضعف المؤازرة الشعبية للنهضة بعد الانقلاب وانسحاب الغنوشي ومجموعته بتلك الطريقة المهينة رغم أنه حقن الدماء، إلا أنه كشف عن خدعة كبيرة تعرّض لها الإسلاميون عندما تم الترويج للمشروع الجديد الذي تبناه الغنوشي لإرضاء تونس العلمانية تحت سقف الحريات وتبديل الخط والمشروع القديم الذي حقّق لهم الانحياز الشعبي الواسع، واليوم شواهد الخديعة للإسلاميين في تونس باتت أوضح من الشمس، وإن العناصر التي صمّمت استراتيجية خطاب الكراهية لحرمان وصول ما يسمونه الإسلام السياسي للسلطة قد نجحت في الالتفاف على الإخوان، ومتوقع الجهات الخارجية التي تدعم استراتيجية العداء للإسلام والإسلاميين على رأسها مصر والإمارات، ستقوم بدعم التحوُّل والانقلاب في تونس سياسياً ومالياً حتى ينجح رغم معارضة بعض دول الغرب شكلياً له، وكذلك معارضة تركيا والجزائر، لكنه سيمضي، وإن الغنوشي ومجموعته ستلاحقهم الاتهامات والبلاغات حتى يشوش لهم وشل قُدرتهم على إعادة تنظيمهم والعودة مرة أخرى إلى دائرة الفعل، ولو عادوا سيكون بنسبة ضعيفة جداً لا تتعدّى التمثيل الشكلي وتلوين المشهد ليس إلا.
نواصل إن شاء الله