عبد الله مسار يكتب.. مَشَاهِد ومَواقف وأحداث من نهر النيل (9)
ولاية نهر ولاية كبيرة بقيمها ومساحتها، وعظيمة بإنسانها، وشامخة بتاريخها ومواقفها عبر الحقب، فيها أسرٌ عريقةٌ صارت منارات سامقة في سماء السودان، المجاذيب أسرة عريقة في نهر النيل، وهُم أهل لوح وقلم، وهُم أهل عِلم وفرسان كلمة، بل لسان عربي مبين، وأقاموا صروحاً للعلم والمعرفة وتعليم القرآن الكريم، أوقدوا نيران تقاقيب قرآن أمّها كل أهل السودان ومن كل الأصقاع. بَرزَ منهم علماء وشعراء وفحول لغة، فمنهم البروفيسور عبد الله الطيب العربي العالم الفصيح، ومنهم محمد المهدي المجذوب، ومنهم.. ومنهم، وهُم يسكنون وسط الدامر، وهُم ثُلّةٌ حباها الله بالدور الطليعي، وهُم في المقدمة ولهم تقديرٌ خاصٌ من أهل نهر النيل عامة وأهل الدامر خاصّة، وهُم أهل شوكة.
برز منهم الأخ المرحوم عمر المجذوب وهو رجلٌ قليل الكلام، فيه سِمت الأجلاء الأتقياء العارفين، وفيه رجاحة العقل وفطنه البدوي العالم، وفيه سكوت أهل الحكمة، وفيه شدة أهل الفراسة، كان رئيساً للمجلس التشريعي اُنتخب لهذه المؤسسة عضواً ورئيساً قبل تولي الولاية، وفيه كياسة وحصافة أبناء البيوت الكبيرة، وكان هو والأخ عبد المحمود عثمان منصور ذلك الرجل القامة نائب رئيس المؤتمر الوطني سابقاً في الولاية يمثلان قطبي الرحى، وكانا معي شريكين في ادارة الولاية، بل كانا ساعدين لي في إدارتها شورى ورأياً وقراراً، ومكّناني من معرفة الولاية معرفة كاملة، وكانا حريصين جداً أن يُقدِّما النصح ولا يتدخّلان في قرارات الوالي، بل لا ينتقدانها بعد الصدور، وكانا يحملان عني كثيراً من القضايا خارج الرسمي، وكانا كثيري التواصل مع المجتمع.
الأخ عمر المجذوب سهّل مُهمّتي لدى المجلس التشريعي وكان حائط صد قوي للحكومة الولائية أمام المجلس التشريعي، بل كان يساعدنا في كثيرٍ من التشريعات والقوانين التي نحتاج إليها وخاصةً في أُمّهات القضايا، ولذلك كان بينه وبين أهل الولاية علاقات مُتميِّزة، وله علاقات مُمتازة مع أعضاء المجلس، وله حضور قوي في الدامر، ومحل تقدير كثير من قيادات الدولة في الخرطوم، وبكل ما ذكرت فُجعنا فيه وكانت الفاجعة أليمة، حيث توفي في حادث حركة بين بربر وعطبرة وبلغني الخبر وأنا في الخرطوم، وكان وقع الخبر علينا كوقع الصاعقة، بل أشدّ، وتحرّكت بسرعة لحضور مراسم الدفن وكان الحضور كبيراً وكثيفاً من المُشيِّعين، واتفقنا مع الأخ عبد المحمود أن نتولى مراسم المأتم ونظل مُرابطين في منزله صباحاً ومساءً ونتواجد كلما جاء وفد من بقاع السودان مُعزياً، وكُنت استقبل الضيوف وأشرف على كل حاجياتهم، بل تواصلت مع الأسرة وكنت جُزءاً منها حتى استغرب أهل الولاية وكل قادمٍ للعزاء، كيف لوالٍ من خارج الولاية يسجل وجوداً اجتماعياً دائماً بهذه الطريقة.؟
جاءتنا الوفود من كل السودان، وخاصةً حكام الولايات وأعضاء المجالس التشريعية، بل جاء معارفه وأصدقاؤه ومعارف وجيران المجاذيب من داخل وخارج السودان، واستمر العزاء لأربعين يوماً وزاد، وكان أهل النيل كعادتهم تواجداً وحُضُوراً.
ورغم أن الفجيعة أليمة، ولكن عرفت فيها أغلب سكان الدامر وخاصّةً الذين لا يظهرون في الملمّات العامة، الرجال الذين يبحث عنهم ولا يبحثون هُم عن صاحب السلطة والسلطان.
وخلال العزاء، عرفت الكثير عن الدامر ونهر عطبرة وعظام نهر عطبرة كالعادة، العمدة الفخيم الكاتب المبدع البرلماني الواسع العمدة علي صالح وشيخ العرب محمود منصور والأخ شقلة وعددا مهولا من نهر عطبرة، وكان لهنود الدامر وجود كبير “مريش وبريش”، وكذلك لأسرة المطبعجي وهم أصهار عمر المجذوب، بل هنالك رموز من الحزب الاتحادي الأصل كالشيخ مجذوب، والحزب الاتحادي الشريف كالشيخ عبد الله، وكثير من عيون المجتمع.
كان فقد الأخ عمر المجذوب كبيراً، كنّا نقول لله ما أعطى وما أخذ، نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة وفسيح الجنات.
أيها السادة، إنّها نهر النيل ماضٍ تليدٍ وتاريخ عطر ومُستقبل مُشرق.