توظيف قيم التراضي كمدخل للسَّلام الاجتماعي
عالم اليوم وغدًا يعيش تحوُّلات وتغيُّرات مُتعدِّدة ومُتنوِّعة في جميع ميادين الحياة العصرية
جئت الفاشر أبو زكريا هذه المرة مُحتفياً بها كعادتي، فقد كانت زيارتي الأولى وإقامتي فيها سعيداً بين أهلها، وكانت لي مفتاحاً مع الآخر إقليميًا ودوليًا، وتعلّمت منهم آيات الجمال. وهم في عشقهم للحياة، يعطوا معنى أن تعيش ثم تبتسم، رغم رهق ألمّ بهم وبنا، وتعب سنوات كادت أن تُضيع حلماً وأحلاماً.
جئتها وفرحي يكبر، فتلك مهمتي الأممية الأولى، يوم عملت من أجل تحسين أوضاع الأطفال في الأوقات الموحشة، وحضوري بعدها في فضاءات المعمورة، متوج بنتائج جهد إبداعي إنساني مشترك، وضعني والأحباب على منصات الجوائز العالمية، نظرت لجانها لفنون العرض عند ارتباطها باتساع الفكرة للسلام ومناهضة العنف المفضي للفوضى .
عرفتها وعشقتها لأكثر من عقد ونصف، يزيد ولا ينقص إلا قليلاً. مبتهجاً بالأشياء يومها، أدخلها الفاشر أبو زكريا على كفوف المحبة، ولا أكاد أغادر حتى أعود. كنت قد بنيت حبال الود بيني والسيدات الفضليات والأطفال، وسكنت بينهم، صباحي يبدأ بصراخ أفهم موجبات ارتفاع الصوت فيه.
ثم أمشي في الأسواق أعرف الأزقة والدروب عرفتني حريصاً على عودة مبكرة رغم الموريات بسهر الليالي، ولكني كما أني من لدن وقتي وحظي اكتفي بأول المساء، وأنشد فية ما أمكن وقتها
(دوِّر بينا البلد داك، أحرق الجازولين يا البابور الجاز)
واختم بلا لعثمة أو تردد
(قالوا الحبيب قطع، نور نور البقع)
أو كما قال الشيخ .
تلك أيام أمضيت فيها بالفاشر أبو زكريا أفضل أوقات إدخال المشروع الإبداعي لفضاء التطبيقات العملية.
استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام
المسرح في مناطق النزاع
مسرح بين الحدود
إشارات ثلاث، تدرّجت من أسفل حتى بلغت غاياتها، ووصلت إلى فضاءات الكون شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. وحُظيت بتقدير العالم الإبداعي، والدبلوماسي، والسياسي، وعلى حياء بعض الحكومي. ومُنحت الجوائز العالمية، وكُتبت عنها الدراسات العلمية، وحُظيت بتقديمها كواحدة من التجارب الوطنية في قاعات الجامعات ومسارح العالم، من نيويورك إلى مانيلا، وباريس، واشتوغارد، وما بينهما، وهم كُثرٌ، لكن الأصل فيها التجارب الأولى مع الأطفال في تلك الأيام بالغة التعقيد، كثيرة الشدة، متناهية الصعوبة هنا في الفاشر المنيرة.
أعودها اليوم لأطرح بين يديها وفي حنانها معاني أن تتجدّد الأشواق لاكتشافات أحدث في الشراكة الجديدة، مستنيرة وذكية، وواثقة وقادرة على البناء، بناء الحياة المستعادة بقوة .
تلك الصور مفتتحاً في هذه الورشة الأهم عندي في الوقت المناسب، مع الأطراف الأقرب إلى بعضها، وفي وعيها لأدوارها المُتعاظمة الآن وغداً، أكثر فأكثر .
والدعوة الكريمة من منظمة السلام والتنمية المستدامة في شراكة مستنيرة مع مركز دراسات السلام والتنمية وحقوق الإنسان في جامعة الفاشر، تدفعني للمشاركة في ورشة عن إدارة التنوع وأثره في بناءً السلام بورقة:
(توظيف قيم التراضي كمدخلٍ للسلام الاجتماعي) .
ثم من عندي إضافة ورشة عملية مع طلاب الجامعة كلية الطب، تدريبات وحوار عن فنون الأداء وتحقيق قيم التراضي وبناء وإعادة بناء المجتمعات.
فجلست لها تجارب وأوراق أقدم تعين لتعرف على الأسباب الرئيسية، الحافزه لبحث التراضي كقيمة أساسية في إثراء التعايش، فكتبت وقلت .
تتّسم الحياة بتحديات مُتجدِّدة، أحدثت تحوُّلات جذرية في أوجه الحياة كافة، وعلى نحو غير مسبوق من حيث قوة ودرجة السرعة في الإيقاع الزمني .
وأشير بلا تفصيل إلى أبرز هذه التحديات المُتجدِّدة في التالي (دون أن يأخذني هذا الترتيب عن منهج ورقتي في كونها حكاية الشدة، والبحث عن فرص السلام وقتها، رغم الشدائد).
أقول
أولاً: الوعي الزائد بحتمية التغيير
عالم اليوم والبارحة وغداً يعيش تحوُّلات وتغيُّرات مُتعدِّدة ومتنوعة في جميع ميادين الحياة العصرية.
(الرضا ثم القبول وفي ورقتني هذه التراضي مفتاح الفرج)
وأسجل هنا من أوراق أقدم لي في ذات الاتجاه والسعي من أجل تحقيق التراضي.
(ليس بتنمية القدرة علي التكيف معها فحسب، بل بتحقيق الاستشراف المستقبلي الذي يؤمن استباق التغير والاعداد لة بالتخطيط والابتكار والابداع في ميادين الرؤية والفكر والعمل).
ثانيًا: ثورة المعلومات والاتصال
وما أدت إليه التطورات التقنية من إحداث لمفاهيم جديدة
وانقل مرة أخرى ما يتوافق مع ذاك المُتغيِّر الأساسي.
إنّ مُجتمع المعلومات يطرح قيماً ومفاهيم جديدة. ويعيد النظر في المسلمات المستقرة، ويثير قضايا فلسفية تتعلق بالإنسان في مواجهة الآلية، ويبرز أهمية المعرفة والثقافة وحُسن استخدامها استراتيجياً).
وحسن الاستخدام يتوجّب التراضي بين مستخدمي وصانعي المعارف. نعم.
ثالثًا: ظاهرة العولمة التي أصبحت من أبرز سمات عالمنا المعاصر.
وقد قادت من جملة ما قادت إليه إلى ما يماثل النقيضين: إذ هي إلى جانب أدت إلى إحساس بالوحدة بين الشعوب حيال كثير من القضايا، وفي الوقت ذاته إلى تعميق الإحساس بالخصوصية والأميز لدى العديد من الحضارات.
رابعاً: أهمية تبني القضايا القومية السودانية
وبالضرورة والواجبات وتحليل ما يُواجهها من تحديات اقتصادية واجتماعية وثقافية.
خامسًا: لم تعد التنمية مفهومًا اقتصاديًا صرفًا. بل هي بذات القدر تُعبِّر عن القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهنا تبدو أهمية تبني قيم التقدم والتطور والتي تدعم توجهات التنمية المستدامة، وأشير لبعض القيم التي أدرك أهمية غرسها في المجتمع:
– قيمة الوقت، وعندي هو الإطار الأشمل لكل مقومات الكفاء والفعالية في الأداء.
– قيمة الاتقان، تؤكد على الحرص وتؤمن بالأداء المتميز في كل أوجه الأعمال بتعدد واختلاف مستوياته.
– قيمة الاعتراف بالآخر، بالقدر الذي يجعل الوطن وطنًا للجميع.
– قيمة تبني التوجهات المستقبلية والبُعد عن اجترار المرارات الماضية أو الانكفاء على الحاضر.
– قيمة التفاوض الإيجابي، الهادف بالقدر الذي يجعل كل أطراف التفاوض تكسب شيئاً من دون التغول علي حقوق الآخرين. بمثل هذه القيم الإيجابية التي يمكن غرسها في مجتمعنا نستطيع أن نوفر المناخ الملائم الذي يدعم التنمية في كافة مشروعاتها الاقتصادية والاجتماعية.
– خامسًا: قال سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم ٢٢). إن التدبر والتأمل في آيات الله تعالى جلت قدرته توضح لنا أن التعدد والتنوع من طبيعة الكون الذي نعيش فيه ومن جلائل نعمائه علينا.
– إنّ النظرة المتأملة الواعية لوطننا الحبيب تبرز إلى موقع الصدارة، إن مساحته الواسعة، وتتدرج فيها الطبيعة، من غابات استوائية كثيفة، إلى سهول السافنا، والانتهاء بالصحاري القاحلة. ويعيش في هذا التعدد والتنوع البيئي ما يماثله من تعدد وأنواع من التكوين القبلي والإثني والثقافي. بعضها تعود أصولها إلى الإثنيات الأفريقية، وبعضها تعود علاقاته العرقية وجذوره الثقافية إلى قبائل عربية وفدت إلى السودان من الجزيرة العربية .
– وبين هذا وذاك تعيش فئات متعددة من العديد من أجناس العالم، الكل يحمل الجنسية السودانية. ويعبر على نحو أو آخر عن الثقافة السودانية بقيمها وأعرافها وتقاليدها العريقة والمستحدثة. هذا التعدد والتنوع، متى ما أحسنا توظيفه يظل مصدر قوة.
– من هنا ومن هذا المنطلق ينبغي علينا:
– أولاً الاعتراف بهذا التعدد والتنوع كحقيقة أساسية.
– ثانيًا ننظر له كمصدر قوة ومنعة.
– ثالثاً أن نؤمن ونثبت أن التراضي الحقيقي ومفهومه المتكامل الذي يقوم على التعايش والوفاق والاحترام يعضد ويثري العلاقات في المجتمع السوداني ويُعزِّز الانتماء الحقيقي الواجب والمطلوب.
– ويرتقي بالأداء لتحقيق الخير والرفاهية لكل أأهل السودان
– قبل الختام لا في باب النتائج فذاك عصيٌّ، أقول من باب إسهامي كمنتج للفنون وشريك في العمل العام وطرف في مناهضة العنف والنزاعات التي أدخلت المشقة الكبرى على الناس كل الناس. وكانت من نتائجها الصراعات والحروب الأهلية التي عانت منها بلادنا، لقد استأثرت الحروب بجل الموارد، وحاولت دونها والأوجه التنموية التي كان ينبغي أن توجه إليها لإقامة البنيات الأساسية، وتوافر الخدمات وتطويرها لمصلحة وفائدة كل المواطنين، ولقد أفرزت هذه الأوضاع السالبة الي تنامي ظاهرة الحركات الإقليمية المُطالبة بالإنصاف.
– لا أرى مخرجاً من هذا النفق المظلم إلا بنبذ ثقافة العنف والاقتتال، وتعميق ثقافة السلام في عقول كل المواطنين، وغرسها في وجدانهم، وتنشئة الأطفال وتنمية توجهات الشباب على حُب السلام، والتراضي وتعميق التسامح والإخاء والتكافل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
– إن هذا التوجُّه الإيجابي الهادف لتعميق ثقافة السلام لا يتحقق إلا بإزالة مكامن العنف ودوافعه وآثاره المدمرة، ثم العمل وفق استراتيجية متكاملة لتأصيل أساليب الحوار والتفاهم، وبناء الثقة وترسيخها، وجعل الوحدة جاذبة لكل أهل السودان، وهذه الثقة لا تتوفر بطبيعة الحال بالرغبة وحدها ولكنها عمل جاد في تجسير الفجوات المعنوية والمادية والتنموية، والمشاركة الحقيقية في الشأن الوطني على تعدد وتنوع مستوياته. إن الخروج من هذه الدائرة المظلمة لا يتأتى إلا باستباق الأزمات والمنازعات واتقاء ما تستبطنه من شرور ومصائب بالتحلي بالشفافية ودراسة كل الظواهر التي قد تقود مستقبلاً للأزمات والمنازعات ووضع الحلول الناجعة لها قبل تفجُّرها وأهمها صيانة الحقوق والمشاركة الإيجابية الحيّة والمُتجدِّدة في السلطة والثروة، المبنية على التنمية المتكاملة والمتوازنة والقابلة للاستدامة وفقاً لحدود التراضي والقبول والتسامح والصراحة والمصالحة.
امتداداً لأيام الفاشر البَهيّة، سأعود لها مرة أخرى وقد أنهت الورشة برامجها بتنفيذ بالغ الدقة مع الجودة، وأدركت أن في فضاء العمل العام، يولد كيان ينظر للواقع الوطني بعين الرضا، ويبحث في فرص التحسين. سلمتوا.
أكتب عنها مدينتي الأحب في دهاليز أخرى إن شاء الودود.
– المطر هنا (مطرين) مطر السماء المدرار ومطر الفؤاد يغسل حزنكم وتقول (يا الله السلامة).