قال ابن حبان (٥/٣) عن عبد الله بن محمد قال خرجت إلى ساحل البحر مرابطاً وكان رابطنا يومئذ عريش مصر، قال فلما انت إلى الساحل فإذا انا ببطيحة وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول (اللهم اوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت عليّ وفضّلتني على كثير مما خلقت تفضيلا).
فقال الأوزاعي، قال عبد الله قلت والله لاتين هذا الرجل ولأسألنه انى له هذا الكلام فهم أم علم، أم إلهام الهم فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت سمعتك وأنت تقول (اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ وفضّلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً).
فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، وأي فضيلة تفضّل بها عليك تشكره عليها، قال وما ترى ما صنع بي والله لو أرسل السماء علي ناراً فأحرقتني وأمر الجبال فدمّرتني وأمر البحار فغرقتني وأمر الأرض فبلعتني ما زدت لربي إلا شكراً لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة قد تراني على أي حاجة أنا. أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع ولقد كان معي بني لي يتعهدني في وقت صلاتي فيوضيني، واذا جعت أطعمني، واذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله، فقلت والله ماشي خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجراً ممن يمشي في حاجة مثلك فمضيت في طلب الغلام. فما مضيت بعيدا حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه فاسترجعت وقلت أنى لي وجه رقيق. أتى به الرجل فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي عليه السلام، فلما أتيته سلّمت عليه، فردّ السلام، فقال ألست بصاحبي، قلت بلى، قال ما فعلت في حاجتي، فقلت أنت أكرم على الله أم أيوب، قال أيوب النبي، قلت هل علمت ما صنع به ربه أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده، قال نعم، قلت فكيف وحده، قال وجده صابراً شاكراً حامداً قلت لم يرض منه بذلك حتى صيره عرضاً لمار الطريق، هل علمت، قال نعم، قلت فكيف وجده ربه، قال صابراً شاكراً حامداً أوجز رحمك الله، قلت له إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر، فقال المبتلى الحمد الله الذي لم يخلق من ذريتي خلقاً يعصيه فيعذبه بالنار، ثم استرجع وشهق شهقة فمات، فقلت (إنا لله وإنا إليه راجعون). عظمت مصيبتي رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع، فسجيته بشملة كانت عليه وقعدت عند رأسه باكياً، فبينما أنا قاعد إذ تهجّم عليّ أربعة رجال فقالوا يا عبد الله ما حالك وما قصتك، فقصصت عليهم قصتي، فقالوا أكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه، فكشفت عن وجه فانكب عليه القوم يقبلون عينيه مرة ويديه أخرى، ويقولون بأبي عين طال ما غضت عن محارم الله، وبأبي وجسمه طال ما كنت ساجداً والناس نيام، فقلت من هذا يرحمكم الله، قالوا هذا أبو قلابه الجرمي صاحب بن عباس لقد كان شديد الحب لله. وللنبي صلى الله عليه وسلم، فغسّلناه وكفّناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه، فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي فلما ان جن الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة عليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي “سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار”، فقلت ألست بصاحبي، قال بلى، قلت أنى لك هذا، (قال إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية).
عباد الله لكم في الصبر درجات علا في الجنان وبشرى سارة كما قال ربنا جل وعلا (وبشر الصابرين….)، وخذوا من السّلف الصّالح القُدوة.