“الزواج التعيس لا ينقصه الحب، بل تنقصه الصداقة”.. فريدريك نيتشة..!
التجوال في شوارع الخرطوم هذه الأيام يُضيِّع الوقت والجهد ويبعث على الشعور بالكآبة. فما كنت تنجح في إنجازه خلال ساعتين تحتاج اليوم إلى ضعفها للفراغ منه. عليك أن تهجر الشوارع التي اعتدت عليها وأن تقطع مسافات أطول من المُعتاد لاجتناب الخوض في مياه الأمطار الراكدة. وفي أثناء عملية اللف والدوران هذه عليك أن تخوض في بعض المياه التي اتفق السائقون على الخوض فيها بعد ثبوت خلوها من الحفر العميقة إياها..!
ومع ارتفاع مستوى الرطوبة في الجو، وتوافر معظم الظروف الموضوعية لإصابة جهازك المناعي بالضعف، تعود إلى بيتك وأنت تسعل، أو تعطس، أو تقوم بحك مساحات واسعة من جلدك، لأسباب لا تدريها. وقد تشعر ببعض الحمى وآلام المفاصل، لكنك في الغالب سوف تتجاهل كل هذا لأنك مشغولٌ، ولا وقت لديك للاهتمام بحركات الدلال التي يصدرها جسمك، الذي يتناسى – في الغالب – أننا في فصل الخريف، أو أننا في السودان على وجه العموم..!
كان هذا هو حالي عندما عدتُ إلى البيت – ظهر اليوم – بعد جولة تسوق لا بأس بها في شوارع الحي. كنت قد أنهيتُ بعض الأعمال الروتينية، وانتهيت من قراءة بعض صحف الخرطوم التي تشبه قراءتها تناول زجاجة كاملة من زيت الخروع على الريق – كما قال ماركيز! – وجلست لكتابة مقال اليوم بمزاج لا أخفيك أنه كان عكِراً، عندما وصلت رسالة ساخرة، طريفة، من أحد القراء إلى بريدي الإلكتروني..!
الرسالة تقول باختصار إن صاحبها رجل خمسيني، وهو زوج وأب لثلاثة أولاد، وإن زوجته سيدة فاضلة تعمل مديرة بإحدى المؤسسات الكبرى، وإن حياة أسرته كانت تسير على خير ما يرام وإن كانت لا تخلو من بعض الشجون الصغيرة، وإنه كان راضياً عن حياته متجاوزاً عن عيوب زوجته ويخطط لأيام المعاش وتزويج الأولاد ..إلخ.. ثم انقلب كل شيء رأساً على عقب – في أعماقه طبعاً – بعد قدوم بعض الجيران الجدد، الظرفاء، إلى الحي..!
يقول صاحب الرسالة إنه كان ولا يزال يحترم زوجته ويخشى ثورات غضبها العارمة، ويتحايل على خوفه وضيقه من النظام الصارم الذي تفرضه على حياتهما بإطلاق النكات والتظاهر بالمرح طوال الوقت. ولأن طبيعة عمل زوجته وطبيعة شخصيتها – التي تأثرت بمهنتها لم تكن تسمح بتعميق العلاقات مع الجيران – فهي لم تسمع شيئاً عن علاقة زوجها بابنة الجيران الجدد، وبالتالي لم تنقل إليها أخبار جلسات الضحى التي كان يحضرها في بيتهم وهو يتجاذب أطراف “الونسة” مع ابنتهم الكبرى، التي راسلني – في هذا اليوم الخريفي الخانق – ليسألني عن رأيي في عزمه على طلب الزواج منها..!
لعلها رسالة قاريء عادية، ولعل السؤال عن رأيي كان من باب الفضفضة التي اعتاد عليها بعض القراء عندما يراسلون بعض الكُتّاب. ولعلني كنت سأدعها وشأنها بعد أن أقوم بالرد عليها. لكن جملةً “زوجتي مديرة” هذه استوقفتني، لأنها ترددت بضع مرات في أثناء الرسالة. لذا فقد اقترحت على صاحب الرسالة – بعد لحظات من التفكير- أن يقوم بتنحية قرار الزواج من أخرى مُؤقّتاً، وأن يستبدل جلساته مع ابنة الجيران بجلسات أخرى يكون فيها مع نفسه فقط. وأن يناقش نفسه بشأن مُشكلة كون زوجته مديرة. وبعد أن يخلص إلى مكامن الخلل عليه أن يُناقش الأمر مع زوجته، وهي بدورها عليها أن تناقش هذا الأمر مع نفسها، وبعد أن تخلص إلى مكامن الخلل عليها أن تعود إلى زوجها وأسرتها ببعض الحلول. ولو نجحت – بنهاية المطاف – في أن تكون في بيتها زوجةً فقط، فلن يكون هنالك أي مشروع للزواج من أخرى..!
على الرغم من خفة الدم والطرافة التي تنطوي عليها لغة الرسالة إلا أنها أزعجتني وشعرتُ بين سطورها بمعاناة شريكٍ في مؤسسة زواج، أحد طرفيها يعيش حياته الخاصة بقوانين ومظاهر حضوره المهني. وهذا – لعمري – قصور حاد في مخزون الوعي، ونقص مقلق في معدلات النضج الإنساني والذكاء العاطفي والاجتماعي..!
حتى وإن كان من يفعل ذلك مديراً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وليس مديرةً ما لمؤسسةٍ ما، بجزيرةٍ أسمنتيةٍ كالحةٍ ما، في هذه المدينة العائمة، التي يسيطر عليها الذباب نهاراً ويهاجمها البعوض ليلاً. قليلاً من الرفق بأنفسكم وشركائكم، فلا شيءٌ يستحق..!