بدون نفْس..
هكذا أكتب اليوم..
أكتب بعنت… ورهق… وملل… ومن غير نفْس..
حتى بلا بصيص ضوء يلوح لنفسياتي في نهاية نفق مسبباتها الطويل..
والغريب أن هذه الحالة لم تصبني أيام الإنقاذ..
طوال ثلاثين عاماً – هي عمرها – لم أبلغ هذه المرحلة من الإحباط النفسي..
والسبب أنني (عشت على أمل لقياك)؛ اقتباساً من الأغنية..
لُقيا نهاية الراهن؛ وبداية القادم..
وأردد – بلسان الحال النفسي – في ثنايا كل سطرٍ أخطه عبارة (القادم أحلى(..
وجاء القادم… جاء بعد طول انتظار..
فإذا هو أقبح… وليس أحلى؛ أقبح في كل شيء.. عدا مجال الحريات..
وحتى الحريات هذه بتنا نعاني من انعدامها الآن..
انعدام حرية أن تتجول خارج منزلك كما تشاء دون أن يطالك أذى..
أذى رصاصة… أو ساطور.. أو (9 طويلة(..
كما إنها حريات منقوصة في غياب المحكمة الدستورية؛ المغيبة عمداً..
تماماً كما غُيِّب عمداً المجلس التشريعي..
فالذين ابتلتنا بهم الأقدار هؤلاء لا يريدون قانوناً… ولا برلماناً… ولا انتخاباً..
فحتى الانتخابات ليسوا حريصين عليها..
ومن ثم ففترتنا الانتقامية هذه ليست أشد قبحاً من الإنقاذ وحسب..
وإنما أقبح حتى من نظيرتيها السابقتين..
وأحد أوجه القبح أن الأحزاب تكالبت على السلطة قبل موعد صناديق الاقتراع..
وهذه ظاهرة انتقالية لم تحدث من قبل..
فما الذي يجعلهم حريصين على الانتخابات إذن؟… وقد نالوا مرادهم الآن؟..
وبالساهل؟… والبارد؟… والجاهز..
سيما وأن أحزابهم لم تعد قادرة على المنافسة الانتخابية؟..
وكذلك حركات اتفاق جوبا ليست حريصة عليها..
وأيضاً المكون العسكري؛ وتبقى سابقة المشير سوار الذهب ظاهرة شاذة..
فلماذا لا يصيبني – كحال الكثيرين – إحباط ٌنفسي؟..
فما من أملٍ نعيش على لقياه؛ بعد أن عشنا على أمل لقيا الثورة 30 حولا..
فليس بعد فشل الثورة إلا الفراغ..
أو النفق المظلم بلا ضوء في نهايته؛ أو الفوضى التي قد تكون غير خلاقة..
فإن ملأ الفراغ انقلابٌ رابع فهذه هي المصيبة الكبرى..
وهذا أدعى إلى أن تتفاقم علينا حالة الإحباط… واليأس… والنفسيات..
فليس في العمر بقيةٌ لرحلة نضالٍ جديد ضد الشمولية..
بعد أن ضاع من العمر هذا ثلاثة عقود بلا معنى؛ سوى أمل اللقيا..
لقد تبدد من العمر الكثير..
كما بدد من يحكمونا – الآن – باسم الثورة الكثير من الأمنيات..
والكثير – أيضاً – من الميزانيات..
بددوها في الفارهات.. والنثريات.. والمخصصات.. والمحاصصات..
والشعب يعاني فقراً هو (الأدقع) في تاريخه..
باستثناء مجاعة سنة (6)؛ في حقبة حكم الخليفة عبد الله التعايشي..
ولكن الحاكمين لا يبالون.. .ولا يكترثون… ولا يعبأون..
فهم مغيبون تماماً تحت تأثير سكرة السلطة..
ولا يبصرون حتى الشجر الذي يسير نحوهم حثيثا؛ ونحذر منه كل يوم..
ولا يسمعون صخب الرعود..
فماذا بقي لنا من نفْس – أو نفَس – لنكتب بهما؟..
وقبل فترة كتبت خاطرة بأن الشجر إن بلغ مضاربنا – واجتاحها- فلن أكترث..
ولن أخط سطراً من شاكلة ما ظللت أخطه ثلاثين عاماً..
بل سأوظف قلمي لقضايا غير سياسية؛ ولن أدعه (يعيش على أمل لقياك)..
حتى الموت – إن حان أوانه – سأحاول الكتابة عن تجربته..
كما حاول الشيء ذاته – من قبل – ملك القصة القصيرة يوسف إدريس..
سأكتب عن أي شيء ؛ إلا السياسة..
إلا النضال ضد ما هو آتٍ ؛ سواءً عبر الكلمة…أو الصوت…أو المواقف..
كما ظللنا نفعل طيلة سنوات المعزول..
ونعيش على أمل اللقيا؛ ويلوح لنا ضوء الثورة عند نهاية النفق المظلم..
فليناضلوا – وحدهم – من أضاعوا الثورة..
وأضاعونا !!.