“الفن يُعَبِّر عن ما لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت عنه” .. فيكتور هوغو ..!
قبل نحو ثمان سنوات كتبتُ مقالاً بعنوان “السفير التركي الجديد”، ناقشتُ فيه ذلك الإحلال والإبدال الدرامي الذي غَيَّر ذائقة المشاهد السوداني، بعد أن أخذَتْ المسلسلات التركية مكان الأفلام الهندية عند عشاق المشاهد الرومانسية، في مجتمعٍ يتشارك الرجل والمرأة فيه المسؤولية الكاملة عن أزمة البوح العاطفي، والرتابة، والروتين، والملل الذي يتمدد بعد فترة “على أريكة الشغف” .. إلخ ..!
وكيف انبثقَتْ الدراما التركية بأبطالها المُخَلِّصين ورجالها المهذبين المُتفهِّمين، الذين يخوضون كل شيء لأجل إسعاد حبيباتهم ومسح دموعهن، وكيف أنني قد لاحظتُ أن الدراما التركية الموجهة للأسواق العربية تتقصَّد مسألة الرومانسية داخل مؤسسة الزواج، وكيف أن السبب في نجاح هذا النوع من المسلسلات – في تقديري – هو أن أيقونة الرومانسية فيها يكون دوماً رجلاً وليس امرأةً. ثم كيف ينصب تأثير هذا النوع من الدراما على نساء المجتمعات العربية أكثر من رجالهن. فالبطل في الدراما التركية هو صورة مُلَخِّصة لمحاسن الحبيب العربي المفقود الذي اتحدت أشواق النساء بشأنه دونما خارطة طريق ..!
وكيف أن بعض المقارنات هي آفة المتفرج العربي الذي ما يزال لا يستطيع التفرقة بين واقع الدراما ودراما الواقع “فما بالك بالمتفرجات”. فكل رجل ليس مهند، الطيب، المتسامح، لا يستحق أن تذرف عليه الدموع، وكل زوج ليس كريم، الراقي، الحنون، لا يستحق عناء المحافظة عليه. بينما واقع المجتمع التركي نفسه لا يشبه حكايات مسلسلاته ..!
وقد ذَكَّرتُ القاريء في ذلك المقال باعتراضات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نفسه على مضمون مسلسل “حريم السلطان”، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في ذلك الوقت، وحديثه عن ملاحقة قضائية لمنتجيه. والسبب أن المسلسل يُظهِر السلطان سليمان القانوني – الذي بلغت فتوحات الدولة العثمانية في عهده شاواً بعيداً، والذي كان يقود الجيوش بنفسه ويحرز الانتصارات في المعارك تلو الاخرى – بمظهر الرجل العاشق والزوج ضعيف الشخصية أمام سطوة جاريته التي تسير شئون الدولة وفقا لأحوال علاقته بها ..!
وقد خَلصتُ في ذلك المقال إلى أن الدراما التركية الموجهة للأسواق العربية هي لعبٌ ذكي على أوتار أزمات البوح العاطفي والشح الرومانسي التي تعيشها نساؤه المسكينات اللاتي يكابدن العطش العاطفي والاحتياج للكلمة الحلوة والمواقف الرومانسية المفقودة، بينما لسان حال الرجال في مجتمعاتهن ما كان يردده أحد المغنين الشباب “لو قايلة ريدتنا زي مهند ونور، تبقي عيانة ودايرة ليك دكتور” ..!
كان مقالاً موضوعه الرئيس تأثير الفن التركي وتأثُّر المتلقي السوداني، وكان عنوانه من باب التشبيه البلاغي فقط. ولم أتوقع يوماً أن تنشأ – فعلاً – حكاية لها علاقة بالفن بين تركيا والسودان، وأن يكون هنالك حقاً سفير تركي في الموضوع. إلى أن شاءت الأقدار أن يلتحق الفنان السوداني “أبو عبيدة حسن” – رحمه الله – بالرفيق الأعلى، وأن يحضر مراسم دفنه السفير التركي “عرفان نظير أوغلو”، الذي كان قد زار الفنان الراحل في أثناء مرضه. فأنْسَنَ حُضوره الرسمي، وتَفَنَّنَ في ذلك، وحَظِيَ بالتقدير ..!
منى أبو زيد