“التغيير في السودان مثل قشرة موز على سطح صقيل، لا يتحدّث الناس عنه إلا عند السقوط”.. الكاتبة..!
“مارك شاغال” – أبرز رُوّاد المدرسة الرمزية في الفن الحديث – له أسلوبٌ متفردٌ وفهم خاص للمعنى الحقيقي للألوان، وهو من أصحاب الرسالات التي تجاوزت أطر التصنيفات الضيِّقة إلى رحابة الانتماء الإنساني الجليل. وقد اشتهر تكنيك “شاغال” بتلك المخلوقات الغريبة الطائرة التي تَطفو على أسطح لوحاته المُلوّنة، وهي تنظر إلى التفاصيل المرسومة من خارج اللوحة وداخل الإطار – من إحدى زوايا اللوحة – وكذلك يفعل معظم الناس عندما يتأمّلون تفاصيل الحياة من حولهم، من زاوية واحدة..!
وعن هذا الضرب من السلوك الإنساني في كيفية النظر إلى مجريات الأمور يقول الكاتب المصري الراحل “أنيس منصور” إنّ لكل إنسان جَانباً خاصّاً من هذا العالم ينظر منه إلى طبيعة الأشياء، وينظر إليه كلّما حاول أن يفهم حقيقة بعينها، وهو في نفس الوقت يجعلنا ننظر إلى ذات الأمر من زاويته هو..!
وفي موقف مماثل، كتب الراحل “محمد حسنين هيكل” معلقاً على تقرير للمخابرات المصرية بشأن قائد العمليات الإسرائيلية في فلسطين – اقتصر في توصيفه على أنه “فلاح ضخم الجثة – إن ذلك القائد الإسرائيلي كان مفكراً سياسياً مهماً، وكانت له كتبٌ تملأ الأسواق في أوروبا، وإنه لمن الغريب حقاً أن لا يرى تقرير المخابرات هذا في الرجل سوى هذا الجانب..!
وعندما أشار الكاتب الأمريكي “لويس ممفورد” إلى قصص “الديكامريون” للكاتب الإيطالي “جيوفاني بوكاتشيو”، لم يتحدث عن الجوانب الإبداعية والانعطافات الفنية في هذا العمل الأدبي العظيم، بل ذكر في كتابه “نشأة المدينة الحديثة” إنها عبارة عن مائة قصة قصيرة، ترويها سبع نساء وثلاثة رجال، وتدور أحداثها خلال عشرة أيام أمضوها في ضواحي “نابولي” هرباً من الطاعون، وقد كان ذلك في منتصف القرن الرابع عشر. وإن هذه القصص تثبت أن الناس في القرن الرابع عشر كانوا يهربون إلى الضواحي عندما يشعرون بالتعب، ومن هنا ظهرت ضرورة الضاحية بالنسبة لسكان المُدن. ولعل “ممفورد” كان يدرك القيمة الفنية لهذا العمل الأدبي العظيم، لكن انشغاله بالبحث عن تاريخ “نشأة الضواحي” هو الذي جعله يرى فقط هذا الجانب..!
في هذه الدنيا، لا وجود للإنسان بعيداً عن بعض الزوايا، ولا حياة له خارج بعض الأُطر، لكننا قد ننفصل أحياناً عن بعض المواقف في لوحات الحياة فنرقب عن كثب وبعد – في آنٍ معاً – بعض الثوابت والمُتغيِّرات في تفاصيل عالمنا، فلا ننساق وراء مآزق التطبيع مع الإحباط والهزائم، ولا نقع في أفخاخ التّعميم عند النطق بالحكم على سلوك الآخرين. فننعم – حينئذ – بالنصف الممتلئ دوماً من كوب الحياة ..!
بلادنا تمر بمُنعطفٍ سياسي زَلِقْ، زوايا التغيير فيه خطيرة، وحوافها باترة، والتاريخ يقول إنّ التّطرُّف في بعض المُبادرات بالأفعال – وفي كل ردود الأفعال – لا يخلق شيئاً سوى الفوضى الهدامة حاضراً، والندم العميق مستقبلاً. هذا الوطن بحاجة إلى أن ينظر مواطنوه إلى ما هو أبعد من أرنبات أنوفهم. هذا الوطن بحاجة إلى شعب ينظر إلى صالحه العام من كل الزوايا الممكنة، لا من زاويةٍ واحدة، قد تُضَخِّم – حيناً – بعض الصور، وقد تُغْفِل – أحياناً – بعض الحقائق. فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر؟!.
مُنى أبوزيد
munaabuzaid2@gmail.com