في ماضي الأيام كانت سطوة القبيلةِ قويةً جداً، ولا زالت باقية، والعلائق ما بينها وبين أفرادها متينة، ومتجذرة ومتوارثة كابراً عن كابر، ورأيُها سواءً كان في السِّلْمِ أو الحرب حاسماً، كالاستجارة وإغاثة الملهوف، أو المناصرة، في حالة الحروبِ والغارات، والغزوات سنداً للأقوياءِ ونُصرةً للضعفاءِ، واجبُ النفاذ، ولن تلينَ لهم قناة في ذلك!!!
والخروجُ عن طاعة القبيلة، والتمرد على سلطانها أمرٌ مرفوض، من قبل العشيرة أو القبيلة، ومصير أولئك العزل والحصار والهلاك، في ظل قانون شريعة الغاب، آنَذاك، ويعود ذلك لعدم وجود سلطة قوية حاكمة للدولة، تقسطُ بين الناس، كُلَّ الناس .
وكما يقول الشاعر :
ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وكانت القبيلة عبارة عن حاضنة إجتماعية جامعة، وليس بالضرورة أنْ يكون كُلَّ المنتمين لها، من صُلْبِ رَجُلٍ واحد، أوْ أنْ يجمع بينهم نقاء عرقي واحد. بمعنى شمولهم جميعاً للصفات الوراثية (اللون والسَّحنة) وغيرها، ولكن الذي يجمعهم غالباً اللغة المشتركة، والثقافة المشتركة، والمصالح المشتركة، والمصير المشترك .
ورمزية القبيلة تكمن في كونها نواة للمجتمع الكبير، وحولها مجموعة دوائر تُمثل مجموع الأفخاذ والبطون، وتسود القبيلة دائماً باتِّساع عدد أفرادها ، والثروة التي تمتلكها من ماشية وأنعام ورجال ، وقوتها تكمن في قبولها للذين يتمُّ إستيعابهم وإدماجهم تحت لوائها ، لأيِّ سببٍ كان من الأسباب كالظروف الطبيعية ، سواءً بسبب الكوارث، والجفاف والتصحر والوباء والحروب والنزوح ، وغيرها من الأسباب .
ويتضحُ من ذلك أنَّ للقبيلة مؤسساتٍ تقليدية قوية تدافعُ عن مجدها والتحديات التي تواجهها في إطار المدافعة والمنافسة على الموارد وسبيل البقاء الذي دائماً يكون للأقوياء في ذلك الزمان .
ولذلك استوحَى المشرعون جزءًا من موروثاتِ القبائل وأودعوها بنوداً أساسية في مشروعات القوانين والنُّظُمْ وإستخلصوها من منظومة القيم التي تتمثلُ في وجود قوي للفعاليات المجتمعية كالهدايينَ والشعراء والحكامات والبرامكة وظرفاء المجتمع، الناطق الرسمي والحصري للقبائل ومهمة هؤلاءِ ذكر عراقة القبيلة على مدى التاريخ حسباً ونسباً وقوةً وشهامة وشجاعة وتتجسد هذه البطولات من خلال الرموز المجتمعية التي بذلت كُلَّ غالٍ ونفيس في سبيل البقاء والوفاء للقبيلة وهذه الوسيلة تتمثل في يومنا عبر الوسائل والوسائط الإعلامية المختلفة، لسان الحال والمقال .
وهنالك العقداء والورانيق والدمالج وتختلف المسميات من قبيلةٍ لأخرى ومن مكانٍ لآخر .
وهؤلاءِ مهمتهم خَوْض الحروب بالدفاع عن القبيلة أو المجتمع .
ولدى القبيلة مجلس الحكمة والرأي، مهمته التآخي بين القبائل، وفَضْ الاشتباكات والنزاعات التي تنشأ بين المجتمعات المجاورة، بالاحتكاك حول المراعي والمزارع، وهؤلاء يمثلون أهل الحلِّ والعقد .
وفي واقعنا الحالي اليوم، أصبحت القبيلة تؤدِّيِ أدواراً أكبر وأعظم، ولم ينحصر دورها في البعد الاجتماعي والثقافي فحسب، بل تعدَّى الأمر ذلك، نحو فرض السيطرة على الموارد ، التي في ظاهر الأرض أو باطنها، في المناطق التي تحت سيطرتها، باعتبارهم أصحاب الموروث التاريخي ، ويسعونَ دائماً باستحواذ أكبر قدر ممكن من مواقع اتخاذ القرار في السلطة، في المواقع المختلفة، لحماية وامتلاك تلك المكاسب الاستراتيجية، ومواجهة الذين يُعارضون تلك الطموحات بما يمتلكون من وسائل وموارد ذاتية ممكنة .
وكلما تطورت وسائل التقنية والاتصال زادت سطوة القبيلة، وَسَخَّرَتْ ذلك لخدمة أهدافها، من خلال الإحصاءات البيانية للإحاطة بأفراد القبيلة، وربطهما ببعضهما البعض، وتسخير واستثمار الموارد في مشاريع إستراتيجية، مستقبلية واعدة .
ففي الماضي لم يكن تَوَفُّرْ هذه البيانات ممكناً، ولم يكن متاحاً الإحصاء والتحليل لتلك المعطيات، وكانت هنالك صعوبة بالغة في عملية التواصل والاتصال، بين أفراد القبيلة في إطار الاستنفار واتخاذ القرار في القضايا الطارئة والملحة، التي تتطلب عوناً اقتصادياً ومالياً وفنِّياً ولوجستياً ممكناً في زَمَنٍ وجيز .!!!
السؤال: لماذا كلما انتشر التعليم وزاد التطوُّر والتمدُّنْ استصحبنا معنا القبيلة وَطَورناها معنا أيضاً بدل تطوير الفكرة والمعرفة وفتح آفاق للرأي؟
لماذا الانغلاق بدل الانفتاح .!!!
لماذا لم تُستخدم الوسائل الحضارية الممكنة (التنظيمات والأحزاب والنقابات) وتتطور وَيُستغنى عن القبيلة في إطار تحقيق المكاسب وَتَوَلِّي القيادة للأصلح والأنفع بدل الأقرب والأغرب .
لماذا لا تُترك القبيلة والعشيرة للجوانب الاجتماعية وصلة الأرحام .
لماذا لا تُستمد الحماية مِنْ القانون والدستور واعتماد معيار الكفاءة والأهلية بدل التدثُّر بثياب القبيلة والجهوية والمحسوبية والانكفاء نحو الذات قريبي وقريبك وأخوي وأخوك ؟!!!
لماذا لا نتدبر قول الله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير)ٌ (13).
لعلنا نُكرمْ في أنْ نُجسِّد معاني ودلالات آيِ الذكر الحكيم .
وهل القبيلة تصلح كمنصة انطلاق لتوحيد جهود المجتمع أم تتعثر وتتبعثر وتتفرق عند توزيع المغانم والمكاسب!!!
أخيراً …
أما آنَ أنْ ندعو لتأسيس قبيلة (السودان) باعتبار ما سيكون وما كان .