“ليس حراً من يُهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة”.. نيلسون مانديلا..!
الأسبوع الماضي كان أسبوع قارتنا الأم وأجداننا الأفارقة بامتياز. فقد احتفلت الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية يوم أمس الأول – وللمرة الأولى – باليوم العالمي للمنحدرين من أصول أفريقية. وذلك بهدف تعزيز المساهمات الاستثنائية للشتات الأفريقي في كل أنحاء العالم، وتحقيق العدالة العرقية..!
وفي ذات الأسبوع كانت الحكومة الفرنسية قد قررت تكريم الراقصة والممثلة الأمريكية الفرنسية السوداء “جوزفين بيكر” بضمها إلى مقبرة العظماء في باريس، حيث يتم دفن كبار الشخصيات الفرنسية، لتصبح “جوزفين” بذلك أول امرأة سوداء تحصل على هذا النوع الباهظ من الاحتفاء..!
أما نصيبنا من أسبوع قارتنا السمراء فكان دعوة المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام – في بيان له بمناسبة اليوم العالمي للاختفاء القسري – حكومة السودان لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحديد مواقع المقابر الجماعية والكشف عنها..!
قبيل انفصال جنوب السودان وحينما كانت سنوات الوحدة تلفظ أنفاسها الأخيرة، أعددنا وقدمنا – بروفيسور عبد اللطيف البوني وأنا – في برنامجنا التلفزيوني “عدد خاص” الذي كان يُبث على قناة النيل الأزرق، حلقات عديدة عن وحدة الجنوب والشمال كخيار اجتماعي، وكانت الحلقات تتضمن – إلى جانب حوارات الضيوف داخل الأستوديو – استطلاعات رأي كثيرة لجنوبيين وشماليين من سكان الخرطوم تم اختيارهم على نحو عشوائي – دون سابق إعداد – وهم يتجولون في شوارع المدينة، وآخرين شددنا إليهم الرحال في مناطق بعينها. ومن النتائج التي خلصنا إليها وقتها أن الشماليين الذين يرحبون بانفصال الجنوب كانوا أكثر من الجنوبيين الذين شملتهم استطلاعات الرأي الخاصة بذلك البرنامج..!
وفي بعض حلقات ذات البرنامج التي ناقشنا فيها – بتجرد كان غير محمودٍ بحسب اعتقاد الكثيرين وقتها – مسألة العنصرية كسلوك اجتماعي بين مكونات مجتمع السودان الشمالي نفسه، تمخضت الاستطلاعات والإفادات عن حكايات لسلوك عنصري تنتهجه بعض السلطات أحياناً عند القيام بإجراءات القبض والتفتيش. أما العنصرية في الزواج فقد كانت الحلقة الخاصة بها كارثية بعض الشيء. كنا على على الهواء وكانت إحدى الآنسات من إحدى مناطق وسط السودان قد حلت ضيفةً على البرنامج بإرادتها الحرة للحديث عن عزمها على الزواج من رجل جنوبي مسلم. لكنها ما أن وجدت نفسها أمام كاميرات البث المباشر حتى تملَّصت من كل حديثها السابق الذي كان السبب الرئيسي في استضافتها..!
لكن رجلاً طيباً كان قد حل علينا ضيفاً بعد انتهاء فقرتها تكفّل بالحديث عن كل ما لا يمكن القول به في شأن العنصرية في الزواج بالسودان. وقد لاحظتُ وقتها أن مناقشة الأمر في حلقة تلفزيونية كان مثار استنكار الكثيرين، ناهيك عن تفعيل محاور ذلك النقاش على أرض الواقع المعيش..!
والحقيقة أن فهم أسباب العنصرية التي يفرضها الوضع القبلي في السودان يحتاج إلى ذهنية خاصة جداً، وأن قراءة كتاب العنصرية في هذا الوطن الخلاسي المترامي تستلزم إلماماً دقيقاً بطبيعة وذهنية الانتماءات العرقية المعقدة التي تسكنه وتتعايش فيه تعايشاً تحكمه أعراف وعادات وتقاليد يصعب التملص من سطوتها. كما وأنه لا يكفي لتحقيق العدالة في سلوكنا الاجتماعي أن نلبس ثوب العولمة الثقافية فوق جسد مليء بندوب العنصرية وأوهام الأفضلية، والنظرة القاصرة أحادية الجانب، وألوان المعاملة التي تحكمها شيطنة الصورة وأبلسة الآخر..!
كل اللف والدوران أعلاه كي أقول بالآتي: على العروبة الثقافية الممتدة في هذا البلد أن تعترف بذواتها المتعددة، وأن تتصالح مع ذلك الجزء الأسود من ذاتها. وعلى حكومة ما بعد الثورة أن تَتبنّى مشروعاً قومياً لمحاربة هُراء التمييز القبلي وأوهَام النقاء العرقي..!