“الدربُ بين مَضلَّتينِ هدايةٌ، حيثُ القناعُ هو انتزاعُ الأفنعة.. لا تطلبِ الصحراءَ فَهْيَ بريئةٌ، في السُّوقِ تُمْتَحنُ النبالةُ والضِّعة.. إنَّ الحقيقةَ سهلةٌ وقريبةٌ، شأنُ السماءِ بعيدةً ممنعةْ.. نحنُ الحفاةُ دمًا ودمعًا، كلَّما سِرنا إلى الحاناتِ صارتْ صومَعةْ”.. الشاعر أحمد بخيت..!
أعرف أُمَّاً كانت ابنتها زوجةً لرجلٍ ذي نفوذ وحيثية، أو شخصيةٌ مرموقة “إن شئت”، بحسب تعريف المجتمع لمنصبه المهني والسياسي. ثم شاء الله أن ينتهي ذلك الزواج – الذي بدأ بحفل عرسٍ أسطوري – بالطلاق. لأن الرجل الذي يُدير شؤون مؤسسة ضخمة بكامل عدَّتها وعتَادها قد فشل في أن يُدير شؤون بيته. وهكذا، وبعد حساب حفنة الأرباح وأطنان الخسائر، قالت الأم مخاطبةً ابنتها بتلك النبرة الواقعية التي يلوذ بها معظم الناس بعد وقوع الكوارث: “إن شاء الله يا بتي بعد دا الحال يجيك زول ساكت”. وعندما استفسرت ابنتها عن معنى أن يكون زوج المستقبل “زول ساكت”، قالت الأم: “يعني زول عادي، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، راجل عيشة، لا منصب، لا جاه، لا لقب”..!
ومن الطريف أنّه وبحسب ذات النَّزعة الطبقيَّة في تقسيم “العرسان” هنالك عرفٌ صارمٌ في هذا السودان بشأن تقييم المكالمات الواردة إلى الهواتف المحمولة. فالناس ينقسمون بحسب ذلك التصنيف إلى فئات تتراوح بين الشخصيات المهمة والناس الساكت. وذلك بحسب موقع رقم الشخص المُتّصل من قائمة الأرقام المميزة. هل تريد مثالاً؟. أذكر أنني عندما كنت أقيم خارج السودان – مطلع هذه الألفية – اشتريتُ حال وصولي إلى الخرطوم في عطلةٍ قصيرة شريحة موبايل بمبلغٍ زهيد “لتمشية الحال”، ثم فُوجئت بعد ذلك بعدم ترحيب معظم الناس بالمكالمات الواردة من فئة الشرائح المسكينة تلك. فشكوتُ الأمر إلى إحدى صديقاتي التي أدهشتني إجابتها بقدر ما أضحكتني “بيكونوا فاكرينك زولة ساكت”..!
وعندما أعربت عن استنكاري لمثل هذا التصنيف المُخِلْ، تناولت هاتفها المحمول بهدوء، وقامت بالاتصال بذات الرقم الذي لم أجد منه رداً. فعلَتْ ذلك بكل بساطة وهي تخاطبني قائلةً بكل ثقة “أنا رقم تلفوني في. آي. بي، عشان بيردوا طوالي”. وعندما أتانا الرد بسرعة البرق قالت صديقتي تلك وهي تضحك “كدا كيف”؟. فأجبتُها – بابتسامة مسكينة – “مُبالغة”..!
ذات النهج في تصنيف الناس ظَلّ ينطبق على ما تدلي به الشخصيات – ذات الحيثية – السياسية والاقتصادية في مختلف مجالات الحكم السياسي والشغل التنفيذي والعمل العام. فهنالك دوماً ما يمكن أن يقال لشخصية ذات قوة ونفوذ، وهناك دوماً ما لا يمكن الحديث عنه أمام أي “زول ساكت”..!
وهكذا، ظل الحديث عن الحقائق في اجتماعات القيادة ومراكز صنع القرار شيئاً والتصريح بشأنها في المحافل الجماهيرية والزيارات الميدانية وأمام وسائل الإعلام شيئاً آخر. حتى الفتاوى الدينية في هذا البلد – بشأن القروض الربوية، أو الخروج على الحاكم، أو إخماد ثورة المحكوم – ظلَّت تكشف عن ساقها بين يدي الحُكَّام بأمرهم، وتتدثّر بسرابل التقييد والتشديد إن كان من يطلبها هو “أي زول ساكت”..!
إلى أن اندلعت ثورةٌ في البلاد، وتم تغيير نظام الحكم فيها، وكان مُشعل شرارة تلك الثورة ووقودها وحارسها الأمين هو ذلك الزول الساكت، الذي سار في المواكب، وهتف وتظاهر وزأر وبات في ميدان القيادة يحرس ثورته من غارات القياديين والمُهمين وذوي الشأن والقوة والحيثية..!
لأجل ذلك – كُلِّه – أقول إنّ على بعض منسوبي هذه الحكومة أن يراجعوا أنفسهم بشأن تسلل ذات النبرة التي تشي بحلول ذات اللعنة – في تصنيف الناس – إلى تصريحاتهم التي صارت تُخاطب ذات المواطن باعتباره “زول ساكت”..!
مُنى أبو زيد